الثلاثاء، 15 أبريل 2014

من وحي الخمسين - د. أمين حافظ السعدني

 يوافق اليوم السبت (2/11/2013) يوم مولدى منذ خمسين عاما مضت، خمسون عاما تساقطت أوراقها من شجرة العمر، فلم يتبق من أغصان تلك الشجرة التى بقيت كثيرا مخضرة وارفة باسقة، يفوح منها شذى الصبا وأريج الشباب، سوى هذا الجذع الذى ينخر فيه الوهن ويحتله الهزال، غير أن هذا المتبقى يحاول  – ما وسعه الجهد - أن يظل ثابتا فى الأرض أمام تدافعات الدهر وتقلباته، وأن يتصالب – ما استطاع إلى ذلك سبيلا – أمام فتن الدنيا وتحريضاتها، فلا تقتلعه العواصف ولا تجتثه من فوق أرض الحياة إلا كرامة الموت، فعسانى- كما تُقْتُ طيلة عمرى - أنال الموت واقفا على مبادئى وقناعاتى، وأن أُدفن - كما تمنيت -  منتصبا على قيمى واختياراتى؛ فالموت وقوفا ولو قصر العمر، لهو خير من العيش انحناء، حتى ولو أصبح طول العمر نُوحيا.

ففى هذه اللحظة التى أنشر فيها هذه السطور، أكون قد بلغت (اليوبيل الذهبى) من عمرى، ذلك العمر الذى تجرعت من شبابه حتى الثمالة، وانتزعت خلاله من الدنيا - رغم أنفها - أكثر مما أرادت هى أن تمنحنى، وإن كانت هى – بدورها – قد بادلتنى انتزاعا بانتزاع، فسلبتنى بيسراها ما أجبرتها أن تمنحنيه بيمناها، وتلك هى الضريبة الحياتية التى ندفعها مجبرين، وإن كانت كلمة (ضريبة) تعنى مجرد دفع جزء فقط من كل؛ أما ضريبة الحياة التى أعنيها هنا، فهى إعطاء على قدر الأخذ ومساوٍ له بالتمام، ولعل ذلك ما يجعلنا نضحك بسخرية فى خريف العمر، عندما ندرك أن ما أخذناه من الدنيا بعد طول كفاح، قد سددنا كامل ثمنه صاغرين، فهو صراع أخذ وعطاء يولّد معادلة تكاد تكون صفرية، ويبدو أن نتيجة هذه المعادلة قد بدت جلية فى قول امرئ القيس (لقد طوفت فى الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب) ولكن تلك هى فلسفة الحياة التى لا تتكون إلا بالتراكم، وعمارة الوجود التى لا يتم بناؤها وإعلاؤها إلا بلبنات الأيام والسنين، وقلما تستطيع إقناع أحد بخلاصة هذه الفلسفة دون أن يحياها هو، ويعايشها بتجربته الخاصة، مهما أخلصت له النصح، وصببتَ فى عقله تجربتك صبا. والحق أنه لا يجب أن ننكر على الآخرين ذلك؛ فالحكمة بطبيعتها تجربة شديدة الذاتية، ومن حق كل إنسان أن يستخلصها من وعائه الحيوى الخاص به، فذلك أدعى للإيمان بها عن اقتناع مطلق، وإن كان ذلك لا يمنع الاستفادة من تجارب الآخرين، والاسترشاد بخرائطهم المعرفية، واستلهام نماذجهم الوجودية، وإلا فلماذا الكتابة فى الدنيا، وما فائدة القراءة فيها؟!

لقد عشت - إلى وقتنا هذا - نصف قرن من الزمان بالتمام والكمال، تكونت فيه عقائدى وقناعاتى، ما صح منها وما بطل، وارتسمت فيه ذاتى، ما صلح منها وما طلح، فكل امرئ هو فى واقع الأمر سجين خبرته وابن بيئته، لا يستطيع من ذلك فكاكا، ولا يحيد عن المرسوم الحتمى لذلك المسار قلمة ظفر، سواء شعر بذلك أو لم يشعر، فأنت تتصرف فى كل حياتك انطلاقا من مخزونك الضميرى الظاهر أو المستتر، أما الظاهر فأنت تدرك مرجعيته تماما، وأما المستتر فإنه يحركك أحيانا من مكان اختبائه فى عقلك الباطن وأنت لا تعى، غير أنك فى كلتا الحالتين واقع تحت أسر هذه التعبئة الضميرية بنوعيها، تتحرك بإملاءاتها، وتسلك طبقا لمقتضياتها، فهذه الخبرة الحياتية المخزنة فى دولابك العقلى بكل تفريعاتها، هى أهم نواميس الضبط الاجتماعى، التى تأتى كل مسالكك فى الحياة استجابة جبرية لسكناها فى نفسك.

 وأزعم أن تجربة نصف قرن من حياتى عشتها بكل زخمها قد أوصلتنى لكامل قناعاتى، وبلّغتنى مرحلة الوقوف على أرض النظر الثابت، فقد عشت طفولتى طفلا، وصبايا صبيا، وشبابى شابا، وكهولتى كهلا، لم تجبرنى الظروف على أن أقفز من مرحلة للاحقتها، ولا أن أنتكس من مرحلة لسابقتها، وذلك من حسن الحظ؛ لأن من عاش فى طفولته رجلا، عاش فى رجولته طفلا. ولا أدّعى أنى أنظر الآن بعين الرضا إلى كل مساراتى القديمة، فلو عاد بى الزمن إلى الوراء، لقمت بإجراء بعض التعديلات عليها، سواء بالإضافة أو الإنقاص أو الحذف، وما كان أيسر ذلك لو صلحت النية، وصدق المتنبى حين قال (ولم أرَ فى عيوب الناس عيبا... كنقص القادرين على التمام) ولكن على أية حال، فذلك هو دأب الدنيا، التى عندما ندرك كيف نعيشها؛ يكون رصيدنا من الحياة قد أوشك على النفاد.

ولا شك أن النظر إلى الحياة بعين الخمسين، يختلف كثيرا عما سبقه من نظر فى فترات العمر السابقة؛ ففى هذه المرحلة العمرية بمكنتك أن ترى الأشياء على صورتها الحقيقية دون إفراط أو تفريط، دون تهويل أو تهوين، دون ضباب أو أدخنة أو سُحُب، أو أى من الغشاوات التى يمكن أن تعيق البصر وتكبل البصيرة. ولقد جاء وحى الخمسين عندى مهيجا لبعض الخواطر التى انقشعت عنها حُجُب الذاكرة، وألحّ شيطان الكتابة بشدة على تدوينها، فاخترت بعضا من تلك الملفات التى تعج بها سجلات هذه الذاكرة، ورأيت أن أميط عنها اللثام، ناظرا إليها بالعين الخمسينية الفاحصة المدققة، ورغم أن كل مراحل عمرى محفورة بالنار فى وجدانى؛ إلا أن اختيارى قد وقع على مرحلة الطفولة تحديدا، فكانت هذه المرحلة بالذات هى وجهة كتابتى لهذه السطور، وقبلة توثيقى لهذه المدونة. فالكتابة عن هذه المرحلة هى بمثابة إنشاء للوحات مصورة، تعكس السطور على صفحاتها من فيض الخاطر، كل أبعاد الحياة الريفية فى مرحلة تاريخية معينة، وتنشر على بُسطها أدق مشاهد الوجود فى إحدى القرى المصرية منذ زمن بعيد نسبيا.

ولا أظن أن حال قريتى (موضوع الكتابة هنا) كان مفارقا بحال من الأحوال لأى من القرى المصرية آنذاك، فلم يكن ثمة ما يُفرّق بين قرية وأخرى إلا الاسم، أما العادات والتقاليد التى لا حصر لها، فلم يكن هناك – تقريبا - ما يختلف فيه بين قرية وأخرى، ومن ثم، فستمثل قريتى قطاعا عرضيا لكل القرى المصرية، ونموذجا إرشاديا شارحا لما سواها من محلات وأمصار آنذاك، وذلك ما ترسّخ فى ذهنى بعد قراءتي لكثير من الأدب عموما، وأدب (السيرة الذاتية) الذى أهيم به على وجه الخصوص، لأدباء مصريين اشتهروا بالإبداع فى هذا المجال، أمثال (يحيى حقى) قنديل أم هاشم، والبوسطجى، وصح النوم (طه حسين) الأيام، دعاء الكروان (محمد عبد الحليم عبد الله) الجنة العذراء، وللزمن بقية (عبد الرحمن الشرقاوى) الأرض (توفيق الحكيم) يوميات نائب فى الأرياف (محمد حسين هيكل) زينب، إلى آخر هذه الإبداعات التى رسمت ملامح القرية المصرية، وصوّرت أنماط وجودها وطرائق عيشها.

وإذا كانت كتابة السير الذاتية من اختصاص الكتاب والأدباء المحترفين أمثال من ذكرت لك، أو من إنتاج بعض مشاهير القادة أو السياسيين العظماء، الذين دونوا فى هذا المجال بقدر ما أوتوا من ملكة الكتابة، تاريخ صعودهم من السفوح إلى القمم؛ فأنا بطبيعة الحال لست من أولئك ولا هؤلاء؛ أولا: لأنى لست أديبا ولا الأدب حرفتى أو صناعتى، ثانيا: لأنى لم أصل إلى أى قمة من القمم، فى أى منحى من مناحى الحياة، تدعونى إلى الافتخار ببلوغها ونشرها على الناس كقصة نجاح جديرة بالتمثل والاحتذاء، كل ما هنالك أنى أدّعى حسن تصويرى لبعض مشاهد عمرى، لأنه يخصنى بذاتى، يشجعنى على ذلك غرامى بالأدب، وهوسى الشديد بفصيله الريفى الذى يتماهى مع كينونتى، وتأتى مفرداته معبرة عن وجودى. بيد أنى لا أستطيع إنكار أن شبق الكتابة يدعونى أحيانا لممارسة بعض العربدات الفكرية، التى لا يهدأ لى بال إلا بعد اقترافها، مستندا فى ذلك إلى مراجع نفسى وحدها، فأنا أجدنى فى قلمى، بل أنا قلمى وقلمى هو أنا، مهما جاء إنتاجه هزيلا أو مخيبا لآمال غيرى؛ ذلك لأنى أكتب (فى هذا المجال) لنفسى أولا، ثم بعد ذلك للآخرين. والواقع أن ذلك لا يقلل من تثمين الآخرين لكتابتى ولا ينتقص من قيمة شهاداتهم؛ فإذا كنت أنا الذى سأكتب عن نفسى، فلنفسى أكتب وعن كتابتى سأرضى بالطبع، أما إذا صادفت كتابتى هوى فى نفوس الآخرين، فذلك مما يضاعف من فائدة تجشم هذه الكتابة، ويهوّن من عناء اقترافها، فدعونى أغوص بذاكرتى وقلمى فى هذه المرحلة، لعلى آتيكم منها بقبس.                    

جئت إلى هذه الدنيا فى الثانى من نوفمبر (تشرين الثانى)1963 وسبحان الله، كان هذا اليوم موافقا كذلك ليوم (سبت) كالذى يوافق هذه الذكرى منذ خمسين عاما، ففى حوالى الثامنة من صبيحة ذلك اليوم من أيام فصل الخريف، الذى لا تربطنى به أواصر حب؛ نظرا لشعورى بالكآبة فى نهاره، وبالضجر والاختناق ساعة الشفق فى أصيله، خلّصتنى القابلة (الداية) من رحم أمى، وذلك فى صحن الحجرة الوسطى (المَنْدرة) التى جاءها المخاض فيها، ذات اللون الأخضر الباهت، من منزلنا القديم ذى اللون السماوى، فى قريتى التى تُبصرها داكنة فى مجملها، حتى وهى تعانق النيل على استحياء، تلك القرية المحفورة فى وجدانى بنار الحب وهوس العشق، والتى لا زالت حواريها وأزقتها العتيقة مرتسمة على جبينى بعطر الندى وتراب الزعفران، قريتى التى تسكن أم عقلى وروحى، فأرى من مركزيتها كل المدن تزٍوى وتتضاءل فتصير أشباحا تدور فى فلكها، حتى ولو ناطحت عمائرها عنان السحاب.  

فأنا أتذكر ألوان قريتى ومروجها جيدا، ويعشش فى تضاعيفى- منذ طفولتى - باهتها وزاهيها، أتذكر شجرة التوت الفارهة التى كانت تظلل مقدمة دارنا من جهة الغرب، والتى كنت أغامر بتسلقها لاقتطاف بعض من ثمارها فى مواسم الربيع، وأحيانا كنت أصعد فوق سطح الدار من أجل نفس الغرض، فكانت حبات التوت الأبيض هى الغاية، سواء بتسلق الشجرة أو بتسوّر الدار أيهما أنجع. كما أتذكر عامود أسلاك التليفونات الخشبى الكالح، الذى كان يقف منحنيا بعض الشىء أمام الجانب الشرقى من الدار، والذى كنا نراه - وهو بلا أسلاك - كنخلة ميتة، تستعصى على محاولات تسلق الصبية ونزق اندفاعاتهم، إلا من كان منهم متهورا أو متحايلا، ولقد كنت أنا زعيم المدرستين ورائدهما بلا منازع (كما سيأتى تفصيله) اللهم باستثناء من كان  ينازعنى هذه الزعامة فى قرى أخرى مجاورة، تختلف فيها ممارسة الهوجائية والرعونة، بحسب درجة التخلف وأنواعه.

أتذكر مواسم العام بفاكهته وهيئات مآكله، وكان الشتاء أشحّ فصول السنة؛ فلم يكن يَجُدْ علينا بأكثر من نبات الخس المزعج الذى لا أستسيغ إلا موضع القلب منه، والذى ليس أكره لنفسى منه إلا الجزر بلونيه الأحمر والأصفر، الذى كان يمثل قضمه وازدراده عبئا إضافيا على أسنانى الضعيفة التى أتلفها (اللِبْ) ومص القصب، وأضراسى التى نخر معظمَها التسوسُ من فرط تناول عصيان العسلية وكفوف الحلوى الحمصية والسمسمية، ثم البرتقال واليوسفى، خصوصا الأول، الذى يطول موسمه ويظل يتراقص لعدة شهور فى سلال حسناوات الريف حتى نزهده، وإن لم يكن يستتبع ذلك بالضرورة الزهد فى حسن البائعات، خاصة إذا كانت إحداهن شقراء بضة، تُكَحّل عينيها بتلك الطريقة الريفية الفجة، التى تسيل معها بقايا الكحل الزائدة فى خطوط متعرجة على الخدين، وتعانى من مشكلة (اللثغة) فى نطق حرف الراء، ممزوجة ببحة فى صوتها، أغلب الظن أنها مصطنعة؛ فهى تسعى لترويج صباها مع بضاعتها فى آن واحد، وبذا يأتى نداؤها على البرتقال بهذه الكيفية باعثا على استثارة شهوتين.

وعموما، فإن فصل الشتاء هو أحب فصول السنة إلى قلبى، وأكثرها انسجاما مع طبيعتى الخاصة. أما الربيع والصيف، فليس أجود منهما، فاكهة وأبّا وحدائق غُلبا، فغالبية الفواكه الشهية لكل العام، إنما تجود بها بساتين هذين الفصلين السخيين. ثم يجر الخريف أيامه المتثاقلة ويسدل أستاره، بعد أن يهدى إلينا أشهر فاكهتين له وأرخصهما سعرا، رغم علو قيمتهما من الناحية الغذائية، ألا وهما الجوافة والبلح، خصوصا الأخير بأنواعه المختلفة، وألوانه التى تتلألأ على وجه القفص، حمراء وسوداء وصفراء فاقع لونها تسر الناظرين، فتجعلنا لا نتخيل فواكه الجنة - المرتبطة فى مخيلتنا دوما بالأكل - إلا على هذا النحو. غير أن أكواز الأذرة المشوية الساخنة تظل هى صاحبة القدح المعلى فى صيف الريف، فكنا نمتلىء منها فى ساعات العصارى، ثم (نَحْبِس) فى أرداف ذلك بأكواب من شاى التموين المقدوح على النار إلى درجة السواد.

ولعل اهتمامى بمثل هذه الأمور التى تخص البطن فى المقام الأول، إنما يرجع فى الأساس إلى أنى كنت أكولا بطبعى، ونهما بشراسة تبلغ حد الافتراس، فلم يكن الطعام بالنسبة لى وسيلة أقتات بها لأعيش؛ وإنما كان غاية نبيلة، رأيت أنها تأتى فى المرتبة الأولى من قائمة مباهج الحياة، وهى القائمة التى لا تشمل عندى سوى الأكل واللعب لا أكثر ولا أقل، فكنت لا أطيق صبرا على الجوع، ولعلى لم أشعر بوخزه إلا نادرا؛ ذلك أنى لم أكن أتريث حتى تفرغ معدتى من الطعام فيعضنى الجوع؛ وإنما كنت أقوم  بملء ما نقص منها أولا بأول، فأعبئ فيها - بشكل دؤوب - ما يتصادف وقوعه بين يدى من مأكل أو مشرب،بلا أى رابط نوعى ولا اتساق ولا اعتبار لما يصح تناوله ليلا أو نهارا، وكأن الله قد بعثنى رسولا للطعام، فأديت الرسالة على أسوأ وجه، وبلّغتها (لنفسى) على أقبح صورة.

ولذلك كنت تجدنى زبونا دائما لطبيب الوحدة الصحية، التى ألِفْتُ رائحة مطهراتها ومنظفات أرضيتها، أذهب إليه فى حالات المرض العادية والمتوسطة، تلك التى تقوى فيها قدماى على أن تحملانى إليه، أما فى الظروف الحرجة التى كانت تقعدنى عن المسير، بسبب المغص الشديد والتقيؤ المتتابع، فإن الطبيب كان يعودنى فى المنزل مقابل خمسين قرشا ينقدها له أبى فور انتهائه من فحصى الذى لم يكن يستغرق أكثر من دقيقة، فضلا عن خمسة قروش أخرى كان أبى يرى وجوب أن (يغمز بها) حامل حقيبة الطبيب، ذلك (التومرجى) الوسيم القسيم، فارع الطول، الذى يبدو دائما – رغم رقة حاله – بهيا متأنقا مبتهجا، مقبلا على الدنيا رغم جفوتها له واستدبارها لوجهه، تفوح من جلبابه الداكرون المكوى بعناية رائحة عطر زكية، مختالا بساعة يده الجوفيال السويسرية المذهبة، وولاعة سجائره الرونسون الإنجليزية المفضضة، ولولا أن لباسه هو الجلباب وشهادته هى الإعدادية؛ لَخِلْتَه – على أقل تقدير – من رجال السلك الدبلوماسى، وهو ما كان يجعل أمى تتساءل بسخرية: كيف لهذا الكائن المسخ القمىء (الطبيب) أن يأخذ خمسين قرشا بحالها، ولذاك البرنس (التومرجى) أن يأخذ خمسا فحسب؟ فيجيبها أبى بأنها (الشهادة) يا سيدتى، فتهمس بينها وبين نفسها فى زفرة أسى لا تخلو من استنكار (قطيعة يا شيخ).

 أما ذلك الطبيب،فرغم يسر حاله وسعة رزقه، فقد كان يبدو بأطماره وأسماله التى يرتديها، رث الهيئة،كئيب الطلعة، أشعث الشعر، مهملا لحلق لحيته بغير التحاء، فكان لا يُغيّر سترته الرمادية المقلمة إلا فيما ندر من مناسبات أو أعياد، وهى سترة ربما تستقيم بعض الشىء على جسده المترهل حال جلوسه، أما حين ينتصب واقفا، فإنها تبدو بالغة القصر شديدة الضيق، لا يستطيع ذِرها الوحيد المتبقى في جانبها الأيمن أن يبلغ عروته فى جانبها الأيسر، وهو إذا ما حاول ذلك تعسفا بشدّ بطنه والتضييق عليها، فهو لا يعنيه حينئذ أية عروة قد شبك فيها الذر، وحتى فى حال اكتشافه للخطأ، فإنه لا يكلف نفسه عناء الفك والربط من جديد، فيقبل بالوضع كما هو عليه دون سخط أو امتعاض.

غير أن الإنصاف يلزمنى ذكر أن هذا الرجل كان طبيبا بارعا، رغم كونه ممارسا عاما، خاصة فى تشخيص الحالات الريفية المعروفة فى أدبيات الطب باسم (أمراض الفقر) فأحيانا كان يشخص بعينيه دون كشف السماعة، وغالبا ما كانت تجىء نتائج الأشعات والتحاليل مصدقة لحدسه وتخمينه، ولعل ارتباطه بالأرياف لسنوات طويلة وعشقه للعمل بها، قد ساعداه على تنمية هذه المقدرة الفذة، وبلّغته قدرا من ذيوع  الصيت، جعل كثيرا من مرضى (المدن) المجاورة  لبلدتنا – فضلا عن القرى بالطبع - يقصدونه طلبا للتداوى والتماسا للشفاء.

 المهم، فسواء كنت أنا الذى أذهب إلى هذا الطبيب العجيب، أو أنه هو الذى كان يأتى لعيادتى فى المنزل؛ فإن العلاج فى الحالتين كان واحدا؛ نظرا لوحدة أعراض (التخمة) وسهولة تشخيصها، وهو فى الغالب الأعم يتراوح بين دواء هاضم أو حقنة شرجية، وربما العلاجين معا، وكم كنت ألعن هذه الحقنة البذيئة، التى تعبث بمقدسات الإنسان وتنال من هيبته وتضع كرامته على المحك، ومما كان يزيد من نقمتى عليها هو أن الطبيب وأبى كليهما، كانا يُجمعان – من باب الشماتة – على أن هذه الحقنة بالنسبة لى إصلاح وتهذيب.

وعلى أية حال، فأنا أدرك أن ذاكرتى تتسع وينفرط عقدها من بين يدى كلما لامست موضوع مولدى؛ فهذا الموضوع هو قاطرة الوعى التى تجر خلفها أثقال الذاكرة، وتحمل فى تقعراتها زخم ذلك التشابك والاختلاط بين النشأة والبيئة والقهر والبراءة فى ضفيرة وجدانية واحدة، وهو ما يجعل الذكريات تتقافز أمامى بشكل يصعب معه ضبطها أو السيطرة عليها، ومن ثم فإنى أقر بعدم استطاعتى كبح جماح ذاكرتى، وعجزى عن حقن دماء نزيفها السيال، ولست بآسف على ذلك؛ لأنها معبأة بمخزون متراكم من الخواطر الهائجة، خاصة منها ذلك الجانب الريفى المرتبط بمولدى ونشأتى، والذى أرى أن سرد بعضه فى هذا السياق لهو الغاية من تدوين هذه السطور، فما موضوع مولدى فى - الأساس - إلا تلك العتبة التى سنلج من خلالها - بالضرورة - إلى كثير من غرف تلك الذكريات الريفية، فلنعد إليه.  

 كانت أمى – كما حكوا لى بعد ذلك – فى حالة إعياء وهزال شديدين؛ فقد كان بدنها الضعيف قد نحل وترهل، وبدت على وجهها دلائل العجز وأمارات الكهولة؛ وذلك جرّاء كثرة الحمل والإجهاض، وماسبباه لها من مآس تقاسمت حياتها بين انتكاس الجسد وقهر الروح؛ فهذه المسكينة كانت قد أنجبت قبلى أربعة ذكور، ماتوا جميعا وهم فى سن الرضاعة، فتولد لديها اعتقاد شبه راسخ بأنى لاحق بهم لا محالة، وأن الأمر لا يعدو كونه مسألة وقت ليس أكثر، فكل فلذات أكبادها قضوا نحبهم، وها هى تنتظر أن أقضيه، وأخذت سخافات الكهانة تنشط فى مخيلتها، فمتى يا ترى سيحلّ دور ضناها فى المغيب؟ لربما يأتى أمر الله قبل حفل العقيقة (السُبوع) أو بعده بأيام على أقصى تقدير، أو ربما بعد شهر أو عدة شهور، وطفقت تتراءى أمام عينيها الداميتين فى وجه ممتقع، طقوس الوداع ومراسمه الجنائزية، فأخذت الصُفرة تغلب على وجهها، وتكسوه مسحة من ذل وانكسار لا تخطؤهما عين ولو كانت كليلة، وصار التطلع إلى ذلك الوجه مما يفتُّ فى العضد ويستجلب الشفقة والرثاء، خاصة وأنها كانت تتشح السواد في مناسبة هى أحب إليها من عرسها، لولا هاجس الموت الذى توقن أنى على موعد معه قريب، ومن ثم  فلم تحاول أمى آنئذ النظر إلى صفحة وجهى أو تكحل عينيها برؤياى؛ كى لا يتعلق قلبها بطفل هو فى عقيدتها راحل ولو بعد حين، فأصبح فؤادها – كفؤاد أم موسى - فارغا، وطوت نفسها على مراجل الحزن التى تفور بين جوانحها، وأشاحت بوجهها عن كل الدنيا؛ لأنها أشاحت به عنى.
  
 أما أبى، فقد وقع فى حيرة شديدة بين أن يمارس الفرح بمولوده الذكر للمرة الخامسة، والذى أسماه (أمين) على اسم أبيه للمرة الخامسة أيضا، وكأنه بإصراره على هذا الاسم يسخر من فكرة الموت، وينكر عليه معاندته المتواصلة لاسم أبيه، فسقط ذلك البائس فى شَرَك التأرجح بين أن يعد عدته لشراء حاجيات طفولة ابنه (أمين الخامس) ولوازم بهجتها، وبين أن ينكفئ على فكرة الكفن الذى أصبح – بحكم العادة - من مشترياته الموسمية، ويفكر فى يوم الدفن اللعين فى كُوّة (طاقة) تلك المقبرة، التى ما إن يجف طينها بعد أن يلحد فى غياهبها فلذة كبده؛ حتى ينبشها من جديد، ليُوارِى فيها بيديه سوءةَ ابن آخر، وكأنها بالنسبة له حصالة الموت، وأن أبناءه ما جاءوا الدنيا إلا على سبيل الزيارة، ولم يُقدَّر لهم أن يسيروا فى الشارع إلا مرة واحدة، محمولين فيها على أكف الحزن من الدار إلى القبر ... آه وألف آه ...!!! ما كان أشقى أبوينا بنا وأحرصهم على بقائنا واستماتتهم من أجل خلدنا، وما أنكرنا لإحسانهم وأفضالهم التى تنوء بحملها الجوارح.

خلال أيامى الأولى التى كنت عائشا فيها تحت تهديد الموت وفى ظل ابتزازه، كثيرا ما جلس أبى فى مواجهة أمى وأمها (أى جدتى لأمى) وأمه (جدتى لأبى) وعمى وعمتى وبعض أقاربى الآخرين، الأصليين منهم والزائفين (المتقربين بالادعاء) جلسوا متحلقين غربالى الأنيق، الذى أستلقى فى وسطه على ظهرى هانئا بريئا، يتناوبون البكاء والنواح ويصخبون بالقول والفعل، أما أنا  – والعهدة على الراوى بالطبع -  فكنت لا أبكى إلا حين يرفعون عقيرتهم بالعويل والضجيج حول مرقدى الدائرى الوثير، أما إذا استكانوا، فترانى تارة أغط فى نوم عميق، لايفسده إلا بعض بلل فى الفراش، أو رائحة كريهة تنبعث من تصرفات غير مسئولة فى وسط الغربال، وتارة أخرى تجدنى محملقا فى سقف الحجرة، وهو أول ما وقعت عليه عيناى من مشاهد الكون، لا يقطع التثاؤب ولا العطس الدائبين من استغراقى فى التأمل، ربما كنت أستشرف آفاق مستقبلى الذى أعيشه الآن، بعد أن وارى الجميعَ الثرى، وبلوغى أنا هذه السن. 

والحق أن أقران أبى وأترابه قد ساءهم كثيرا ما وجدوا عليه ضنك حاله وحال أمى، وتعجبوا لأمر ما نزل بساحة دارنا من بؤس وشقاء، رغم استقبالها لمولود حى يرزق، يُعبّق صراخه أجواء الدار، ويعكر على الجيران صفو نومهم، ويحرمهم الخلود إلى الراحة والسكينة، لدرجة أنى أصبحت خلال أيام قليلة من مولدى،شخصا غير مرغوب فيه؛ لأنى كدرت السلم العام فى كل أرجاء الحارة، على امتدادها عشرات الأمتار، من أول مصطبة دوار العمدة (عم أبى) شرقا، إلى مقام (سيدى عبدالرحمن) غربا. فكثرة صراخى وأنا ابن سبعة أيام تقريبا، قد ثوّرت الحارة بأكملها ضدى، وجعلت أهلها يضيقون ذرعا بوجودى وأنا لم أزل فى المهد، وأظننى بهذه المأثرة قد بلغت منزلة من الرفض الشعبى المبكر، لم يسبقنى إليها أحد فى العالمين. ولو كنت كاتبا لسيرتى الذاتية بشكل مفصل؛ لذكرت لك كيف تطور هذا الرفض وذاك البغض، واتسعت مداراته داخل كل بلدتى، بل والبلدان المتاخمة لها؛ ليصبح هذا الرفض عابرا للقرى والعزب والكفور.

ففى تلك المرحلة البائسة من عمرى، التى بدأت من الطفولة المبكرة وامتدت إلى بدايات المراهقة، كنتَ تجدنى أسرع الناس ركوبا للمخاطر والأهوال، وأجرأهم على اقتراف الرذائل والحماقات، وأقدرهم على صناعة المصائب وتدشين ممارستها، كما كنت دائما صاحب السبق – بشهادة الجميع – فى اكتشاف مناهج الأذى وآليات تطبيقه، بالشكل الذى يؤدى إلى تحقيق أكبر قدر من الضرر، لأكبر عدد ممكن من الناس، دعابتى ثقيلة الوطأة ولفظى جارح، أما مزاحى فما أيسر من أن ينتهى بمجزرة، يسبق لسانى تفكيرى، وتسبق يدى لسانى بغشم منقطع النظير، لا يعرف الاعتدال ولا الرضا ولا السكينة سبيلا إلى شخصى، أهيم فى الدنيا على غير هدى، بصفات همّاز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، حتى أن أبى قد أصابه الندم على شغفه القديم بإنجابى، فكان لا يفتأ يردد: سبحان من أخذ منى أربعة ذكور، واستبقى لى هذا النمرود، ويتساءل بحسرة واستغفار متتابعين: هل هذه آخرة صبرى؟!

على أية حال، دعك الآن من ندم أبى؛ فقد فات أوانه، ولنقف قليلا عند مَعْلَمين من معالم قريتى ذكرتهما لك منذ قليل؛ لرسوخهما فى ذهنى بشكل خاص، ألا وهما: مصطبة دوار العمدة، ومقام سيدى عبد الرحمن، ولنبدأ بالأولى:

فتلك (المصطبة) كانت تمثل لنا فى مرحلة الصبا (دار الندوة) فعليها كنا ندبر شئوننا الطفولية، ونضع خارطة الطريق لكل أنواع العبث والمجون، ولعل لعب القمار كان أقلها وطأة، وفوق هذه المصطبة بالذات، كان استبدادى وطغيانى يتزايدان حتى على بعض الصبية الذين يكبروننى سنا؛ لكون المصطبة إحدى ممتلكات جدى العمدة ومن ملحقات دواره، الذى كان يمثل رمزا لجهة سيادية عليا فى القرية، فهذا الدوار وإن كان طلاؤه الجير المائى، وأثاثه الكنب البلدى، وفرشه حصير الخوص، وإنارته الكلوب الصينى؛ فهو يجسد مؤسسة سلطوية لها شرعيتها الرسمية والاجتماعية فى كل أرجاء القرية، من الوحدة الصحية شمالا إلى المصرف جنوبا، ومن جسر النيل شرقا إلى قنطرة الترعة غربا. وكان أهل القرية ينظرون إلى هذا الدوار بما وصفته لك، وبما يتراص فى شرفاته الواسعة ونوافذه الشاهقة من قلل مياه بيضاء وحمراء، تبدو وكأنها أعلام مرفوعة فوق منظمة دولية، وبما تعج به غرفة الخفراء من بنادق بدائية، غلب السواد على مقابضها ومواسيرها، فضلا عن (عُهدة) التليفون الحكومى الأسود الضخم، ذى الكابل المهترئ، بسماعته الملحومة من أحد طرفيها بالنار، والملفوفة بخيوط الدوبارة من الطرف الآخر، كل ذلك وغيره من أمارات الجاه والنفوذ وسعة السلطان، قد جعل أهل القرية ينظرون إلى هذا الدوار، كما ينظر سكان دول الموز إلى البيت الأبيض أو البنتاجون.

وإذا ما رجعنا إلى الأعضاء الدائمين أو المنتسبين لمصطبة ذلك الدوار، فربما كان مرض أحدهم أو فقره المدقع أو ضعفه الجسدى أو جُبنه الواضح أو هيئته الرثة، فذلك مما كان يغرينى على أن أتجرأ عليه ممارسا لبعض مظاهر السادية. فإذا اجتمعت فى شخصى بعض نوازع التسلط المستمدة من كونى واحدا من أحفاد أعلى رأس فى البلاد، مضافا إليها بدانة جسدى من فرط تناول الطعام وعطلة التفكير، مدعومة ببعض خصال النذالة التى لم يكن طبعى يفرط فيها بسهولة، فضلا عن شىء غير يسير من شر تنطوى عليه سريرتى؛ فإن المنتج النهائى لهذه التركيبة العشوائية، سيكون - بالحتم - كائنا قلما يبشر مستقبله بأى خير، لو كان سيصبح له مستقبل من الأساس، وهذه بشارة كان الناس كثيرا ما يبشرون بها أبى وأمى؛ غير أنهما فى الواقع لم يكونا فى حاجة إلى هذه النبوءة ؛ لأنهما كانا يدركانها بالبداهة.

أما مقام (سيدى عبد الرحمن) فهو ذلك الضريح المهيب ذو التصميم الشبيه بقبة الصخرة، مع فارق الحجم، والذى كنا ننظر إليه بانبهار وإجلال شديدين، وكنا معشر الصبية ندين له بكثير من أوجه الفضل؛ فساحته هى المكان الذى يطيب لنا أن نلهو فيه معظم ساعات النهار، ممارسين لكل صنوف الرذائل والموبقات، وربما ذلك ما كان يجعلنا نخشى ليلا أن نمر بجانبه، وترتعد فرائص أحدنا إذا لامس ثوبه حائط الضريح فى الظلام، لاعتقادنا أن ذلك الولى المدفون بداخله يتحين الليل؛ لينتقم لنفسه ولربه منا، لقيامنا بسبِّ الدين طوال النهار أمام ساحته، ناهيك عن التبول (الإرادى) على عتبة بابه.

كما أن هذا الولى هو صاحب (المولد) السنوى البهيج، الذى كنا نتقلب فى نهاره بين أكل الحلوى الملونة الرخيصة، وركوب المراجيح الخشبية البدائية، التى يصدر احتكاك أجزائها أصواتا تطربنا وهى تدور بنا، فيغرى ذلك صاحبها الذى يديرها يدويا بمساعدة زوجته السمراء التى ترتدى بنطالا وتدخن السجائر، أوبمساعدة أحد أبنائه، فيسرّع من وتيرة دورانها مما يصيب بعضنا بالدوار، فتتعالى الصيحات مغطية على أزيز المراجيح، وهنا يُعرب صاحبها ومديرها عن سعادته بضحكة تبدو من خلالها أسنانه المعدنية، ثم يبدأ فى إيقافها بالتدريج، فننزل منها بين سخط وسعادة، وينصرف الأطفال ويتفرقون إلى حيث البحث فى ساحة المولد عن متع أخرى؛ بينما أبقى أنا أقلب نظرى خلسة بين أسنان الرجل الحديدية وبين بنطال زوجته وسيجارتها، وقد استدنانى الرجل ذات مرة بعد أن طال تصلبى بجانبه، ودنوت منه، فسألنى عما إذا كنت فقدت شيئا أو أريد من الرجل شيئا، فصارحته – على غير عادتى بالصراحة – أنى أقف متفرجا على زوجته التى تتشبه بالرجال أو لعلها تشبههم بالفعل، فما كان منه – عليه لعنة الله - إلا أن نهرنى فعلا ولفظا ، فشيعنى بركلة من وجه قدمه، أكفأتنى على وجهى، قمت منها أجرى متحسسا أوجاع مؤخرتى، فى حين استمر هو يكيل لأبى وأمى وكل من قاموا بتربيتى أقذع الألفاظ وأحطها وأكثرها سوقية وابتذالا، وأنا أسائل نفسى مندهشا: ما بال الرجل لو كنت قد أكملت جميلى وذكرت له موضوع أسنانه بالمرة؟ والواقع أن الأذى الذى حاق بى جرّاء هذه الأزمة قد زادنى كرها على كره فى فضيلة الصراحة.

أما مساء المولد، فكانت العائلة تستجلب أحد المنشدين (صييت) يقف على مقطورة أحد الجرارات الزراعية، وقد تفنن المتخصصون فى تهيئتها مسرحا صغيرا، محاطا بالمصابيح الكهربائية الملونة، ما بين كروية مختلفة الأحجام، ومستطيلة (نيون) متباينة الأطوال، والتى لم نكن نراها إلا فى مثل هذه المناسبات الزاعقة، يقف هذا الصييت - بعد أن يتلو شيئا يسيرا من القرآن - ليقص بشكل موسيقى نشاز (وَصْلة) أو اثنتين من تلك القصص الشعبية (المفبركة) التى لا يستسيغها عاقل ولا تجد سبيلا إلى التصديق إلا عند الحمقى والنوكى والمخطوفين ذهنيا، فهذه الأساطير وتلك المغالطات التاريخية البشعة، غالبا ما تُقتطع بشكل خاطىء من روايات (ألف ليلة وليلة) أو تُجتزأ من بعض السير والملاحم الشعرية مجهولة المؤلف، ويقوم بعض الهواة بتلحينها وإجراء بروفاتها على المقاهى البلدية، ويتخذونها وسيلة لكسب العيش اليسير وتحقيق الثراء السريع، عن طريق بيع الوهم لأنصاف العاقلين، والاتجار غير المشروع فى مقدسات الثقافة. يقف هذا (الشيخ) يبث هذه الترهات فى مسامع مشاهديه، الذين يجلس صغارهم القرفصاء مفترشين الأرض، بينما يقف عِلْية القوم خلفهم على شكل أنصاف دوائر؛ إذ أن مروءتهم تحول دون مجاورتهم للصبية والأوباش، أولئك الذين لا يكلّون ولا يملّون من المزاحمة، والمكايدة والتقريص والتنخيس، والتنابذ بالألقاب، والتراشق بقراطيس التراب، وتَفْل قشر اللب على القفا، وإلصاق (اللبان) بعد مضغه فى الملابس، وضرب (البُمب) وإشعال الشماريخ، وسرقة الشباشب أو تبديلها، إلى غير ذلك من تصرفات صبيانية، تفسد على الكبار متعة مدفوعة الأجر، ينتظرونها بفارغ الصبر من العام إلى العام.

وأمام هذا المسرح المقطورى، أو قل إن شئت هذه المقطورة المسرحية التى يعتليها ذلك المنشد، يهيم السامعون طربا وتهليلا وتصفيقا وصفيرا وتشنجا، ويرددون بين الفينة والأخرى (مدد يا سيدى عبد الرحمن) ويتوسلون إلى الصييت أن يعيد بعض مقاطع إنشاده المرة تلو الأخرى، وهو ما يزيده تيها وزهوا، وتتضخم ذاته حتى تبدو وكأنها ستنفجر من فرط الاختيال، وتتزايد هذه التجليات إذا صاحب ذلك التشجيع الرجالى، زغاريد بعض النسوة ممن يرقبنه من فوق أسطح المنازل، فذلك مما يجعله يبذل جهدا صوتيا وجسديا مضاعفين، يزلزل بهما - من خلال الميكرفون - أرجاء القرية، وكأنه يوهمهم بأن الأربعين جنيها التى جمعوها له أجر إحيائه لهذه الليلة، ليست بالكثيرة على إبداعاته وتخريجاته كصييت فوق العادة، وأنه يستحق تلك الخمسين التى يتقاضاها من كل قرية كتسعيرة جبرية حددها هو بمعرفته لكل الموالد؛ لولا أنه يعامل (سيدى عبد الرحمن) معاملة خاصة، تقتضى منه هذا التخفيض وتلك التضحية.

وقد يجلس بعض الكبار وخصوصا (الغَرّابة) الذين حلّوا ضيوفا من القرى المجاورة على إحدى المقاهى المتنقلة، التى تنشط فى مثل هذه السهرات، والتى تديرها عجوز شمطاء، بمساعدة ابنتها، تلك الفتاة (العانس) التى يخوض الناس دائما فى سيرتها، يجلس هؤلاء مفترشين الخيش على الأرض،يلوكون الفول السودانى، أو (حب العزيز) أو الترمس المخلوط بالفول، ويدخنون (الجوزة) وقد يُخرج أحدهم من جيب صديريه لفافة (سيلوفان) تحتوى على (قرش حشيش) لزوم هذه المناسبة الدينية المباركة، وابتهاجا بمولد صاحب المقام، فيستل أحد المتخصصين فى دراسات السُطل المتقدمة مطواة (قرن غزال) من سيالة جلبابه لتقطيع (الأمانة) ثم ينصب الورشة اللازمة لعمليات التقطيع والتدوير والمضغ والرص، ويقوم آخر - وهو أقل منه مرتبة فى السلم الحشيشى - بوظيفة تغيير الحجارة وتجهيز الحصى والتهوية على جمرات الفحم لتظل متوهجة، ثم يقدم الجوزة إلى متلقيها، ذلك المخلوق (الهرقل) ذى الشارب المفتول لأعلى كأنه مخرطة ملوخية، يقدمها له من ناحية (البُوصة) مصحوبة بالتحية الوطنية للحشيش (مساء الخييييير) فيرد بصوت متحشرج، بعد أن يسحب نفسا عميقا تعلو معه كركرة الماء فى البرطمان، ناظرا بعيون زائغة إلى خطوط الدخان الثلاثة الخارجة من فمه ومنخاره (مساء الفل يا مَعْلمة) ثم  يمسح موضع فمه من البوصة (من باب الإتيكيت) ويقدمها بزهو وخيلاء إلى رفيقه فى دائرة الجلسة، ذلك الرجل (الأحول) شديد النحالة ذى الملامح الهزيلة، والذى لا تنبىء سحنته المحنطة بأية مقدرة تحشيشية تذكر، يقدمها مصحوبة بنفس التحية المعروفة، لذلك الرجل (المومياء) فيحاول الأخير أن يلقن الجالسين عبرة، مفادها أن المسألة قد لا ترتبط بالبدانة وعملقة الجسد كما يظنون؛ بقدر تعلقها بموهبة وملكة وتاريخ حافل بأمجاد (الغُرز) فيعدل وضع (الطاقية) على رأسه بسحبها ناحية جبينه، خاطفا نظرة إلى السماء، وكأنه يسأل الله التوفيق، ثم يعقف حاجبيه ويرجع برأسه إلى الوراء، ويسحب نفسا (تُشعلل) معه جمرات الحجر، فيرتفع صوت النصبة بأسرها (الله أكبر) ويردف أخصائى الحجارة: يا صلاة النبى أحسن، هذه – والله - بركة سيدى عبد الرحمن.  

وفى موضع آخر من حلقة الحفل، يقوم أحدهم بإطلاق عيار خرطوش من (فرد) يدوى الصناعة، يتبعه زميله، وفى الأغلب يكون غريمه، بإطلاق عيارين متتابعين من فرد (بروحين) فيرد عليه آخر من موقع مجاور بعبوة من أحد مسدسات (البريتا) الإيطالية الفاخرة، عندئذ ينتصب أحد أعيان العائلة صاحبة الحفل المضيف للجميع، ساحبا أجزاء بندقيته الآلية اللامعة روسية المنشأ، ويطلق لسرعتها العنان بعد أن يُنشّط خيارها الأوتوماتيك، فترعد مقذوفاتها الكاشفة فى سماء القرية، ويندفع الصبية لاهثين لجمع فوارغ المقذوفات النحاسية؛ فهم يبيعونها بالكيلو أو بالقطعة للحدادين، أو يصهرون فيها قطع الرصاص لصناعة (مدافع الكبريت) أو يشترون بها بعض المثلجات من بائع الجيلاتى المتجول، الذى يقبلها بديلا عن انعدام النقد، كما كان يقبل أيضا بقايا عظام الذبائح التى كان يجمعها الأطفال من الخرابات، وكذلك ما كانوا يجمعونه أو يحتفظون به فى منازلهم من قطع الزجاج المهشم لنفس الغرض. المهم، فمع انطلاق هذه الأعيرة، تجلجل زغاريد النساء والصبايا من الشرفات والشبابيك، مصحوبة بتصفيق الصبية والشباب ورقصاتهم على أنغام التخت المصاحب للمنشد،  فيزداد الحفل توهجا وصخبا، ويعانق الابتهاج عنان السماء، فتبدو الليلة ملحمية بسحر الأسطورة، وبمشهدها الخرافى الذى يستعصى على النسيان.

بيد أن هذه الفعاليات – للأسف - قلما كانت تنقضى دون إصابة أحد، سواء على الأرض أو فوق أسطح المنازل، فمعظم هذه الأسلحة غير مرخصة، ومن ثم يقوم مالكوها بإخفائها - ومعها الذخيرة بالطبع - فى مخابئ غير مناسبة لحفظها، فتفسد الطلقات ويصيب الصدأ بعض أجزاء الأسلحة، فتكون نتيجة استخداماتها كارثية فى بعض الأحوال، سواء حدث ذلك عن طريق القتل الخطأ، أو الإصابة، أو نشوب الحرائق فى حطب الأسطح، ويتولد جراء ذلك من الإحن والحزازات بين الأفراد والعائلات، ما تضيق به الأنفس، وتحتقن منه المشاعر. ولكم كنت أتساءل – ولا زلت - ما الدافع وراء حيازة هؤلاء – وكان منهم أبى رحمة الله عليه - لتلك الأسلحة؟ صحيح أن مسدس أبى ماركة (حلوان) كان مرخصا، وهو أوضع وأحقر ما يمكن ترخيصه من أسلحة؛ غير أن أبى كان شديد الولع باقتناء أسلحة أخرى أفخم وأغلى منه، ولكنها غير مرخصة بالطبع، فضلا عن أنه كان يقتنى أنواعا أخرى من الأسلحة لا يمكن ترخيصها أصلا؛ إما لكونها شديدة البدائية (صناعة ورش) وإما لكونها أسلحة ثقيلة، وبالتالى فإن القانون لا يجيز ترخيصها لأفراد، باعتبارها معدات عسكرية من مخصصات الجيوش. ولقد سألته ذات مرة عن ذلك، فأجابنى بأنه يهوى الأسلحة بصفة عامة ولكنه لا يستخدمها، وإنما يقتنيها لمتعة الهواية فحسب، أما من ناحية مسدسه (الحلوان) فأخبرنى بأنه قد قام بترخيصه لحماية أملاكه بشكل شرعى. والحق أن كونه يهوى الأسلحة فهذا شأنه، رغم كون هذه الهواية مسكونة بالخطر من كل جانب، أما مسالة (حماية الأملاك) هذه، فكنت – ولا زلت - أراها محل نظر؛ فأى أملاك تلك التى كنا نمتلكها وتستوجب اقتناء السلاح لحمايتها، وأين هى هذه الأملاك؟ أكاد أجزم أن هذا الرجل كان (يشتغلنى) على أية حال، ما علينا ...!!!

وليس أرسخ فى قاع ذاكرتى مما حدثتك عنه، إلا (كُتّاب) قريتى الذى يحتل فى مخيلتى مركز الصدارة، ولولا أن سياق الكتابة قد فرض على قلمى منهجية معينة؛ لذكرته لك قبل كل شىء بحكم بؤريته فى عقلى، النابعة من كونه أولى ساحات احتكاكى بالناس والدنيا، فقد كنت قبل اختلافى إليه رهين محبسين، أولهما أمية أبى وأمى، فقد كانت أمى لا تقرأ ولا تكتب، أما أبى فكان يقرأ بشكل معقول فى حين لم يكن يُجد الكتابة إلا بالشكل الذى يغنيه عن استعمال (الختم) أما من ناحية عمليات الجمع والطرح والقسمة والضرب، فحدّث ولا حرج؛ إذ كان يجريها كالآلة الحاسبة، وثانى هذين المحبسين هو خوف أبى وأمى علىَّ بشكل مرضى، وذلك بسبب الظروف التى صاحبت إنجابى والتى سبق وحدثتك عنها، فأبقيانى فى الدار أشبه ما أكون بالسجين، لا أبارحها إلا فى أقل الأحوال، وبصحبة كليهما أو أحدهما على الأقل، وهو ما جعل وسط الدار التى كانت مفتوحة على السماء، هى محل نزهتى آناء النهار، فى حين كان جهاز (الراديو) الضخم هو واسطة التقائى بالعالم الافتراضى فى جوف الليل، فكنت أقلّب محطاته وأنا تحت اللحاف، عسانى أعثر على ما يسلّينى أو يعيننى على النوم، فأنام أحيانا وأتركه يعمل، إلى أن يكتشف أبى هذا الإهمال الذى من شأنه تقصير عمر بطارياته الثلاث (الحجارة) فيقوم ممتعضا بإطفائه، أما المرات التى كنت أطفئه فيها بمحض إرادتى، فذلك عندما يكون موعد بث محطاته الإقليمية قد انتهى، ولم يتبق إلا تلك المحطات الأجنبية التى يلتقطها الجهاز مشوشة، والتى يتراوح بثها ما بين بعض النشرات أو البرامج الأجنبية التى تثير ضحكى وسخريتى من هؤلاء الذين يتحدثون لغة غير مفهومة، يقول لى أبى أنها (رطن خواجات) لا تفهمه أنت، وكأنه هو الذى يفهمه، وبين بعض أصوات الغناء (الأوبرالى) التى كنت أخاف بشدة من سماع نواحه وأنينه وغرابة أدائه فى شكل (تعديد) خاصة فى هذا الوقت من الليل. 


كان هذا الكُتاب يقع على بعد أمتار قليلة فى جغرافية الحارة من دارانا، شأنه شأن المَعْلَمين اللذين حدثتك عنهما منذ قليل، بل يزيد اقترابه عنهما؛ لمتاخمة جداره الشمالى لجدار دارنا من ناحية الجنوب، ولعل هذا الجدار – فيما أذكر – كان مشتركا، لذلك كنت أسمع أصوات التلاوة فيه وأنا فى دارنا، أما إذا اعتليت سطحها، فكنت أشاهد ذلك الجزء المكشوف من الكُتاب، وأختلس النظر إلى أهل (سيدنا) وهم يديرون شئونهم المنزلية، وقد تَغْلب علىَّ شقوتى فأحادث أحدهم من هذا الموضع (الأوفسايد) فتلوح منه أمارات التبرم والامتعاض، لقيامى بانتهاك حرمة الدار، وكشفى الفج لخصوصيتها وأستارها.


وكان الكُتاب يتكون من حجرتين متواضعتين متوسطتى الاتساع، مفروشتين بالحصير المنقوش الذى بدا عليه الاهتراء، تفصل بينهما كوة فى حجم فتحة الباب، ولكن ليس لها باب، ولعل ذلك لكى يستطيع سيدنا من خلالها متابعة الصبية الصغار فى الحجرة الداخلية، أو يسترق السمع إلى بعض سخافاتهم اللفظية وهو جالس على أريكته الخشبية فى الحجرة الخارجية، تلك التى كانت مخصصة للأكبر سنا والأكثر تقدما من القُراء والحُفاظ، والتى كانت تطل من ناحية الشرق على دهليز يؤدى إلى غرفتين أخرتين متجاورتين فى شمال المبنى، هما اللتان كانتا تتلاصقان مع دارنا، وهاتان الحجرتان كانتا هما كل دار سيدنا ومقر إقامته الدائم، هو وكل أفراد أسرته الكبيرة، من زوجة وأولاد وأخوات وبعض صغار الأحفاد، فلم تكن الدار تزيد على ذلك إلا شونة بهائم (زريبة) تطل على حجرتى سيدنا بالتواجه التام، فهو ما إن يفتح باب إحدى الحجرتين اللتين يتخذهما مقرا ومقاما؛ حتى تقع عيناه مباشرة على الجاموسة، التى كنا نحترمها ونفترض فيها البركة، وربما كنا ننظر إليها كما ينظر البوذيون إلى البقر. وإلى جوار هذه الجاموسة المباركة، تُقَيّد فى أحد الأوتاد حمارة بيضاء هادئة، تغلب على طبائعها شيم الرزانة وشمائل الوداعة، كان صبية الكتاب يعابثونها فى بعض أوقات الفسحة، مستغلين فيها دماثة الخلق وطيبة الأصل، فهى لم تنهش أحدا منهم من قبل ولم ترفسه، وكأنها تعرف أنهم طلاب شريعة جديرون بالحفاوة والتدليل، غير أن طبائع هذه الحمارة قد تغيرت تماما، عند التحاقى أنا بالكتاب.


كان أبى مترددا بين أن يلحقنى بالتعليم، فيصبح لى شأن عظيم ومنزلة اجتماعية رفيعة، كتلك التى يتمتع بها مشرف الإصلاح الزراعى (جلال أفندى) ذلك المثل الأعلى الذى كان المزارعون ينظرون إليه وهو يتجول بدراجته النارية (الموتوسيكل) بين الحقول، نظرة إكبار تفوق ما ينظر به المجتمع الدولى إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وبين أن يبقينى بجانبه أساعده فى أعمال الحقل وأعباء مهنة الفلاحة، وبذا يضمن أن التعليم سوف لا يبعدنى عن عينيه، ولا يجعلنى أتغرب إلى المدارس النائية، وأنا ابنه الوحيد الذى لا يطيق صبرا على فراقه مهما كانت قلة أدبه، فهو يتعلق به تعلق يعقوب بيوسف، غير أنه بلا أسباط، وقد طال تأرجح أبى بين الفكرتين وكأنه وقع بين شقى الرحى، ولا شك أن انبهاره بمنصب المشرف الزراعى ووجاهته، كان مما يرجح فكرة تعليمى، إلا أن التردد كان لا يزال هو سيد الموقف. وفى نهاية الأمر حسم أبى رأيه، وتوصل إلى حل يخرجه من هذا المأزق، رآه معقولا ومُرضيا لنفسه، فرأى أن يلحقنى عامين أو ثلاثة على الأكثر بكُتاب القرية المجاور لدارنا، عسانى أحفظ شيئا من القرآن وأستطيع (فك الخط) ثم لا داع بعدئذ لتطويل رحلة التعليم أكثر من هذا، فذلك على أية حال سيكون خيرا من الجهل المطبق، الذى سيضطرنى إلى البصم أو استعمال (الختم) الذى يحمله الأميون فى الغالب مربوطا من ثقبه بفتلة. أما إذا اجتهدت وثابرت وأثبتّ جدارة مشهودة فى تحصيل العلم والمعرفة؛ فقد عاهد نفسه على أن يرضخ فى هذه الحالة لفكرة أن يواصل معى رحلة تعليمى إلى منتهاها وأعلى درجاتها،حتى أحصل - بأمر الله - على دبلوم زراعة؛ وبذا سوف لا يكون بوسع الدولة إلا أن تقلدنى منصبا كالذى يشغله جلال أفندى، مع ما يسستتبعه ذلك – بالضرورة - من تسليمى عهدة الموتوسيكل.


وأول ما بدأ به أبى تنفيذ استراتيجيته هو إبلاغ (سيدنا) بهذه الأجندة، فدعاه لزيارتنا يوم الجمعة ليلا، وكانت زيارة هذا الرجل لأحد البيوت مما يُعد من مفاخرها ومآثرها؛ فهو - رغم رقة حاله - ممن يناطحون حضرة العمدة فى المنزلة وسمو القامة إن لم يكن يعلوه، شيخ جليل قارب السبعين من العمر، ومع ذلك يتمتع بصحة الرجل فى خمسينيات عمره إلا فى بطء مشيته، رَبعة بين الطول والقصر،أشقر الوجه مستطيله، رقيق الملامح قسيمها، واسع العينين كحيلهما،ذو لحية أشعلتها السنون شيبا،فبدت متسقة مع كل لباسه الأبيض، باستثناء عمته الأزهرية الحمراء، وكأنه – بهذه الهيئة – ملاك، طبقا لفولكلورنا الدينى، يمشى متكئا على عصا معقوفة من الأبانوس الأسود، مطعمة فى موضع الرأس بالعاج، ومغلفة عند موضعها من الأرض بحلقة من النحاس الأحمر بطول شبر، يبدو الاختلاف واضحا بينها وبين تلك العِصىّ القذرة التى يستخدمها الفلاحون لينهروا بها الكلاب، ويهشوا بها على أغنامهم، ولهم فيها مآرب أخرى، ترافقه هذه العصا فى السير كأنها ساق ثالثة. شخص بلغ من الوقار مبلغا جعل الهزر والمزاح لا يعرفان سبيلا إلى خصاله، رغم طيبة قلبه وصفاء نفسه ونقاء سريرته وصوفية نزعته، لم نره يقهقه طوال حياته، فغاية انشراحه الابتسام، إذا تحدث استخدم لغة تراثية غلبت على تكوينه الذى يتخاصم كلية مع ثقافة الحداثة ومرجعياتها، فهو لا يستشهد إلا بآيات الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة المشهورين، ولا يتمثل إلا الحكمة الشرقية وموروثات التاريخ العربى. إذا مشى فى القرية حوّطته الهيبة والعظمة وكل مظاهر الإجلال والإكبار والتعظيم، فهو (المُعلم الأول) لأكابرها ووجهائها، ومن القلائل الذين يخطّون فيها بالقلم، وهو الوحيد فى القرية الذى يحفظ القرآن كاملا ويتلوه بكل القراءات، وهو إمام وخطيب المسجد الرسمى لها، وهو المصلح بين الزوجين حال اختلافهما، وبين الرجلين حال تنازعهما، وبين أى خصمين حال تصارعهما، وفى جميع الأحوال لا راد لكلمته ولا معقب على حكمه، بل ينحنى الكبير قبل الصغير مقبلا يده، حتى لو صافحه فى اليوم أكثر من مرة، وحين ينسى أحدهم ذلك أو يتناساه، فإن سيدنا لا يتنازل البتة عن هذا الحق المكتسب بالمكانة، فيرفع يده ويقربها إلى فم مصافحه، فيُقبلها الأخير صاغرا، مهما علت مكانته أو تقدمت سنه. ولما كان لهذا الرجل كل هذه الصلاحيات الدينية والاجتماعية؛ فلم يكن بوسعنا إلا أن نراه مفتى القرية، ووزير أوقافها، وشيخ أزهرها، فى شخص واحد.


كنت فى الرابعة من عمرى أو على وشك بلوغ الخامسة، عندما تفضل سيدنا بتلبية دعوة أبى، وكانت الدار على أهبة الاستعداد لاستقبال هذا الضيف الكبير، ولم ينس أبى ليلتها أن يرتدى أقيم ملابسه وأغلاها قماشا وتفصيلا، وذلك هو جلبابه الصوفى الكشمير الأسود الذى كان حُلّته الباهظة ليلة زفافه، والذى لم يكن يرتديه إلا فى الأسفار المهمة، أو لتأدية واجب العزاء، ورغم أن الوقت كان مصادفا لأوج الصيف (يوليو) فإن أبى رأى أن بروتوكول الليلة يقتضيه الظهور بهذا الزى الرسمى مهما كان الجو خانقا. اصطف الجميع فى حالة سكون مطلق عند مقدمه، ولولا أن أحد أقاربنا كان قد استشهد منذ أيام قليلة فى حرب 1967 وكانت القرية بأسرها فى حالة حداد، شأنها شأن معظم القرى المصرية التى دهست النكسة من شبابها ما دهست، وخلّفت من الشعور بالقهر والمرارة والإحباط والذل والانكسار وكل تجليات العار ما خلفت، أقول لولا هذه الأجواء، لانطلقت الزغاريد مدوية فى أرجاء البيت ابتهاجا بولوج هذا الشيخ المهيب عتبة الدار. المهم، قام الجميع بالتسليم على سيدنا بخشوع شديد، مؤدين فرض تقبيل يده بالطبع، ولما جاء دورى فى السلام، رفعت يدى إلى أعلى من مستوى رأسى وهويت بها بعنف على كف يده، محدثا بهذه (الطقة) فرقعة عالية، وأتبعت ذلك بضحكة غير مبررة، فما كان من أبى إلا أن صفعنى، كعادته دائما عند أقل هفواتى وأيسرها، لدرجة أن خدى الأيسر كان يبدو فى معظم الأحوال فى حالة ورم واحمرار، وأمرنى أن أعيد السلام على سيدنا بأدب واحترام ففعلت، غير أنى نسيت التقبيل أو ربما أكون قد تعاليت على أدائه، فضاق بى الجميع ذرعا، ولكن سيدنا تنازل عن حقه فى هذا الظرف الاستثنائى حقنا للدماء، وأظنها المرة الوحيدة التى سلبه فيها أحد هذا الحق المقدس.


وبعد الترحيب المتكرر بالرجل، بدأت مراسم حفل العشاء، التى لم يكن يعنينى - بصفة شخصية - سواها، فوضعت أمى الطبلية (الكبيرة) المخصصة لمثل هذه الولائم الباذخة، والتى كانت تحفظ طقوس أدائها جيدا؛ نظرا لكثرة زبائن أبى وتعدد مدعويه، سواء بمناسبة أو بغير مناسبة، وأخذتْ ترصَّ على حوافها بشكل أنيق أبرمة الأرز المُعمر بُنية اللون، التى فاحت الحجرة بريح زبدتها ولبنها وقشدتها، وبين كل برام وآخر وَضعت الشوربة الساخنة مغروفة فى أطباق عميقة من الصينى الأصلى، الذى كثيرا ما كانت تمنّ به على أبى؛ لأنه من مقتنيات (جهازها) الغالى الذى تزوجته به، والذى لم يكن يخرج من سحارته الخشبية إلا فى مناسبة كهذه أو (لإخراج صينية فى مأتم) وخلف كل طبق وضعت ملعقة فضية مزينة بنقش (السبلة) المحفور يدويا بدقة متناهية أعلى مقبضها، ثم أتبعت ذلك بخوان واحد بيضاوى الشكل، ممتلئا عن آخره بالمكرونة المحار التى تتلألأ الصلصة الحمراء بين حباتها المقوسة، وكان وسط الطبلية لا يزال خاويا، ينتظر أيقونته الرئيسية التى ستكتمل بها روعة اللوحة ويتم بهاؤها، فحملت أمى تلك الأيقونة بكلتا يديها ووضعتها بعناية بالغة فى موضعها المختار، ماعون شديد الاتساع يستلقى فيه على ظهره (ذكر بط مكتف) تم تحميره فى الفرن الطينى باحترافية كانت أمى تتمتع بها فى هذا الشأن، محاطا بمجموعة حوائجه غير منقوصة، ومُزدانا من جهة الأطراف بقطع متوسطة الحجم من ريش البتلو المسلوقة، التى يتشابك لحمها مع دهنها فى ضفيرة يسيل لرؤيتها لعاب الشبعان، فما بك بالجائع. وعندما بَدَرَتْ منى التفاتة مفترسة إلى هذا الطبق بالذات، ردعنى أبى بغمزة من عينه اليمنى فارتدعت، غير أنى تطوعت - بلا مبرر - بتثمين ذكر البط على الملأ، فأعلنت أنه يساوى ثمانين قرشا على الأقل، فتطور ردع أبى لى من الغمز بالعين إلى (الزغد) بالكوع، وقال – نافيا لهذا العار - نحن نربى البط فى دارنا على الغالى ولا نشتريه أبدا من السوق، ثم غطى على الموقف بصياحه فى أمى: الملاحة ياحاجة، لماذا تنسينها داائما؟ فخفّت الخطى بإحضارها، وفى بداية تناولنا للطعام بادر أبى بمنحى من (المناب) ما يكفينى وزيادة، بيد أنى طالعته بنظرة أدْرَك كنهها على الفور، فأسرع بإعطائى قطعة من الكبدة، خشية أن أجاهر بطلبها، وقد وضع أبى أمام الضيف خيرة ما فى هذا الطبق من نسائر الأوراك والصدور وريش البتلو، وأخذ الكل فى تناول ما يروقه من أصناف، وخيمت روح السكينة على آفاق المشهد، فلا تسمع إلا رنين الملاعق فى قاع الأبرمة والأطباق، تتخللها كركرة (شفط) المرق، وفيما عدا ذلك، فإن الكل كان يعمل فى صمت.


وفور الانتهاء من هذه الوليمة، والتى تبقّى منها ما يكفى لإطعام النساء اللاتى ساعدن أمى فى طهيها وإعدادها، قام أبى بصب الماء برفق على يدى سيدنا من إبريق نحاسى حمله بيمينه، بينما وظّف يسراه كشماعة تتدلى منها فوطة قطنية مزركشة، وذلك فى (طشت) تتوسطه مصفاة وُضعت عليها صابونة عطرية (بريحة) خارجة للتو من علبتها الورقية الخضراء، وكان سيدنا قد أطال وقت الغسيل، مما أوجع ظهر أبى من الانحناء، ومع ذلك فقد رأى سيدنا أن يتوضأ بالمرة استعدادا لصلاة العشاء التى أوشك موعدها على الحلول، فأعاد الكَرّة من جديد وبتجويد أكثر، مستبعدا هذه المرة عملية استخدام الصابون. 


وفى أثناء احتساء الشاى الذى أعقب الطعام مباشرة؛ إذ لم يكن قد تبقى فى المعدة أى موضع لعصائر أو حلويات، فضلا عن أنها لم تكن موجودة من الأساس، دار الحديث حول مستقبلى الذى وضع له أبى أسسه المبدئية، وعرض خطته سالفة الذكر على سيدنا فلاقت عنده استحسانا، هنالك أخرج أبى من جيب صديريه حافظة نقود سوداء ضخمة، تُقفل بأذرة معدنية (كباسين) من تلك التى يحملها تجار المواشى، ولعله كان يتشبه بهم فى ذلك، وأخرج منها ورقة خضراء جديدة فئة (الربع جنيه) وقدمها لسيدنا كهدية خالصة، لا علاقة لها بالثلاثة قروش التى سألتزم أنا بدفعها لفضيلته بانتظام فى يوم الخميس من كل أسبوع حال انتظامى فى الكتاب، وهذا المبلغ الأسبوعى يطلق عليه اسم (الخميس) لاقتران دفعه باسم اليوم الذى يُحصّل فيه سيدنا ذلك القسط الدراسى من غلمان الكُتاب. وحين هَمّ سيدنا بالانصراف، لم يجد أبى بُدّا من تذكيره بأنى شقى (بعض الشىء) فابتسم الرجل ابتسامة عريضة بدت معها نواجزه، وطمأن أبى أنه – بإذن واحد أحد - سيعلمنى الأدب من جديد، ابتداء من الغد (السبت) الذى سيكون أول أيام التحاقى بالكتاب، فلاحت على وجه أبى أمارات الغبطة، ورمقنى بنظرة لا تخلو من شماته، فى الوقت الذى كنت فيه أسائل نفسى باندهاش: من أين جاء سيدنا بهذه الثقة؟!


فى صبيحة ذلك اليوم المشهود، استيقظت أمى مبكرا كعادتها اليومية، وألبستنى جلبابا جديدا مُعدا لهذا اليوم التاريخى؛ فهى لم تكن تصدق أن العمر سيمتد بى حتى أبلغ مرحلة دخول الكتاب، ولذلك جهّزت لى هذا الثوب الحريرى الأخضر السندسى خصيصا لذلك اليوم الموعود، ومن نفس قماشته ولونه وضعت على رأسى طاقية مطرزة بخيوط ذهبية وفضية، تبدو من مقدمتها (قُصة) شعرى، ويتدلى من خلفها جزء طويل ينسدل على قفاى فيكاد يغطيه، فبدوت بهذه الهيئة وكأنى ولى عهد أحد أمراء المؤمنين، وبعد أن أفطرتنى إفطارا أشبه بوجبة غداء، رغم أن معدتى لم تكن قد فرغت بعد مما كبسته فيها ليلة أمس، فقد بخرتنى وقامت برقيتى بتلك الرقية التى لم أزل أحفظها إلى يومنا هذا، ودعت لى بالهداية والتوفيق، ثم قرأت المعوذتين والفاتحة، وهمّت بحملى على كتفها إلى الكتاب، لولا أن أبى قد منعها من أن تحمل فيلا صغيرا يوشك أن يبلغها فى الطول، وإن كنت أنا من ناحيتى لم أكن لأمانع.


وعندما سلمتنى أمى بيدها – كعهدة – إلى سيدنا، ألزمته باستلامها غير منقوصة قرب الظهيرة، قمت بمصافحته مقبلا يده هذه المرة، ووجدت الأطفال يُجلّونه ويهابونه بشكل كبير، فقد كانوا يخشون بأسه وشدة بطشه حتى وهُم خارج الكتاب، فإذا رأوه مترجلا فى الشارع هرعوا إليه مقبلين يده، وربما يفر أحدهم مختبئا إذا تصادف ضبط سيدنا له متسكعا فى الطرقات، أو فى حالة تلبسه بفعل تأنفه القيم والعادات الريفية، وحتى فى البيوت، كان الآباء يهددون صغارهم بإبلاغ سيدنا إذا تجاوز أحدهم حدود الأدب، أو إذا ماطل فى الذهاب لقضاء حاجيات البيت من الدكان، أو إذا تلكأ فى العودة، وكانت هذه السطوة وذاك النفوذ على الصغار مما يضاعفان من مكانة سيدنا، إذا ما أضيفتا لمرجعيته المشهودة للكبار وسعة سلطانه عليهم. وبعد أن استلمنى من أمى رحب بى وأحسن وفادتى، وقام باصطحابى إلى حجرة الكتاب الداخلية الخاصة بصغار الصبية والمستجدين، وأجلسنى معهم واستوصاهم بى خيرا، وكانوا جميعا فى نفس سنى تقريبا، غيرأن تفوقى الجسدى عليهم كان باديا بوضوح.


وفور أن غادرنا سيدنا إلى أريكته فى حجرة كبار الصبية المجاورة لحجرة الصغار، ابتدرنى أحدهم بقوله: ما هذا (الكفن) الذى ترتديه؟ فما كان منى إلا أن انتصبت واقفا، وانهلت عليه بالضرب المبرح، فأوسعته صفعا ولكما وركلا، موزعا أذاى على كل أعضاء جسده بما فيها أكثر هذه الأعضاء حساسية كعينيه، أو أشدها خطورة كما سيأتى فى مخيلتك بالضبط، وأعقبتُ ذلك ببضع بصقات متلاحقة أمطرت بها وجهه، وطال رذاذها وجوه من جاوروه، غير أنهم آثروا السلامة، ثم أنهيت مهمتى بسبّ دين أمه وأبيه بأعلى صوتى، وعلى إثر ذلك حضر سيدنا مسرعا فوجد، الصبى فى حالة من الإعياء شبيهة بالإغماء، ووجد كل الصبية قد تبعثروا فى حالة هرج ممزوجة بفزع شديد، وكأنى أفعى قام سيدنا بإطلاقها فى حجرتهم، فأمرهم بالجلوس كما كانوا وقام بتهدئة روعهم، وأرسل فى إحضار بعض الماء من (الزير) المخصص لشرب الصبية فى الدهليز، فارتوى الضحية من (الكوز) وغسل وجهه بما تبقى فيه، وأعطاه سيدنا قرص (نعناع) من تلك الأقراص التى كان يحب استحلابها دوما، ويحتفظ ببعضها فى سيالة جلبابه لمثل هذه الظروف الحرجة.


وبعد أن عاود السكون المكان، بدا سيدنا وكأنه تذكر وعده لأبى بأنه سيعلمنى الأدب من جديد، فجرّنى من تلابيبى، وألقانى على ظهرى، وأمر أحد كبار الصبية أن يرفع قدمى إلى أعلى، ثم أمسك بمقبض سوطه (الزُخْمة) ورفع به يده إلى أعلى قاصدا نزول الضربة على قدمى، فهوت الزخمة على وجه الصبى؛ لأنى سحبت قدمى من بين يديه، وهنا استشاط سيدنا غضبا، ووقع اختياره على صبى بدا لسيدنا أشد قوة وبأسا من الأول، غير أن ما حدث للأول هو ما حدث للثانى، مع فارق واحد، هو أن الزخمة كادت أن تفقأ عين الأخير وكم كنت أتمنى ذلك، فلم يَرَ سيدنا مفرا من تقييد ساقى بالحبل (الفلقة) محدّثا نفسه بصوت مسموع: لابد من ترويض هذا (البغل) كما ينبغى، وطفق يطرقع بالزُخمة على قدمى وهو جالس مستريح لما يقرب من ثلاث دقائق متواصلة دون استراحة لى أو له، مابين ابتهاج كل الصبية وخالص شعورهم بالشماتة، وبين سبّى أنا بأعلى صوتى لدين أم سيدنا ودين أبيه، ودين أم من أرسلونى إليه.


وفى فسحة نفس هذا اليوم لم يمنعنى ما حاق بى من أذى فى نصفه الأول أن أتسلل إلى الزريبة مع بعض الصبية من أصدقاء الحمارة، وقد سولت لى نفسى أن أمتطيها ففعلت، ثم ألححت عليها (بالنخس) المتتابع أن تمشى وهى مقيدة من ساقيها، فما كان منها إلا أن انتفضت فى حالة هياج، وقفزت بنصفها الخلفى (قَمَّصَت)قفزة أوقعتنى وسط روث الزريبة، فنالنى من عقاب سيدنا هذه المرة ما تنوء بتحمله البهائم، ثم أكملت اليوم ورائحة (الجِلّة) تفوح من ثوبى الحرير. وعندما حان موعد الانصراف، لم تأت أمى لتستلمنى كما وعدت، ولست أدرى ماذا دهاها، فقد كنت أحوج ما أكون أن أرجع إلى البيت محمولا فى هذا اليوم (الأغبر) وذلك لشدة الألم الذى أعانيه فى قدمى ويدى وسائر جسدى، ولكى لا أصبح فريسة سائغة لأولئك الذين نالهم من أذاى ما نالهم. عموما كان البيت على بعد خطوات معدودات، فاضطررت أن أعود إليه بمفردى، ودخلت على أمى باكيا ساخطا، يبدو العرج الشديد فى مشيتى والتورم فى وجهى، أما طاقم الحرير الأخضر، فبدوت فيه كمن خرج لتوه من بالوعة مجارى.


بعد عصر ذلك اليوم الميمون، قام سيدنا بإجراء زيارة خاطفة لدارنا، ممسكا فى يده بنفس (الربع جنيه) إذ لم يكن قد تصرّف فيه بعد، ودون إلقاء تحية السلام أصرّ على إرجاعه لأبى من على الباب، مُنهيا على وجه السرعة هذه الصفقة الخاسرة، التى ربما تضطر سيدنا إلى تغيير مهنته، عندئذ استشعر أبى الخطر الشديد، وأدرك أن خطته قد أصبحت عرضة للفشل الذريع بأسرع مما توقع، وأنه سيرانى أمام ناظريه كحلم يخيب، فأخذ يلاطف سيدنا، وأصرّ على دخوله الدار ليستريح الشيخ على الأقل من عناء المشوار، وأرسل فى شراء زجاجة (كوكاكولا) كبيرة، ارتشفت أنا ما تبقى فى قاعها بعد مغادرته، وقدم له من عبارات الاعتذار ما يليق بمقامه، متوسلا إليه أن يعتبرنى كأحد أحفاده، فمن ذا الذى يقوم بذلك الدور إن لم يقم به سيدنا وشيخنا وكبيرنا وتاج رأسنا؟ وعندما لاحت فى وجه سيدنا بوادر القبول، سارع أبى جهة السرير، وسحب من بين مرتبتيه ورقة رمادية اللون فئة العشرة قروش (بريزة) قدمها لسيدنا، فوضعها داخل الربع جنيه الذى كان لم يزل ممسكا به، وطوى الرجل كل المبلغ ووضعه فى كيس نقوده القماشى، ثم أملى على أبى شرطين رآهما ضروريين: أولا أن يشترى لى أبى (جزء عم) كى أحفظ منه فى المنزل، ثانيا ألا تقوم أمى ولا غيرها بمرافقتى إلى الكتاب، فوافق أبى على الفور، وانتصب الرجل واقفا للانصراف، غير أنه جلس فجأة وكأنه تذكر شيئا، وهنا ارتعب أبى خشية أن يكون سيدنا قد غير رأيه، إلا أنه عاجله بشرط ثالث رآه سيدنا أهم من الشرطين السابقين، ألا وهو ضرورة أن يأخذنى أبى إلى الحلاق (المِزين) ليقوم بتقصير شعرى الذى يبدينى تطويله بهذه (السبسبة) كالمتخنثين، فقبل أبى كل إملاءات سيدنا جملة وتفصيلا، وقام بمرافقته - على مهل - إلى باب داره، محاطا بكل آيات الشكر والعرفان.


وفور عودة أبى (جرجرنى) من شعرى إلى حيث أجلسنى بيده على كرسى المزين، ضاربا بنظام (الدور) عرض الحائط، وطلب منه أن يأتى بشعرى إلى جلد رأسى (زيرو) وكانت الحلاقة بالنسبة لى دوما تجربة مريرة، فماكينة القص لا تعدم حيلة فى تعذيبى، فهى لقدمها وبدائيتها أحيانا ما تقتلع الشعر من جذوره بدلا من قصه، أو أنها تشعرنى بالقشعريرة حين يلامس معدنها الناعم قفاى. وكان الحلاق يعمد أحيانا إلى إهانة غالبية زبائنه؛ لأنهم لا ينقدونه أجر حلاقتهم، وإنما يسددون هذا الأجرمن السنة إلى السنة (مِسَانِية) فى صورة أردب أو أكثر من القمح أو الذرة أو الفول أو الأرز، من كل حسب ما يزرع من محاصيل، ومن كل حسب ما يجود به من كمية وأجولة، غير أنه كان يُكنّ لأبى احتراما خاصا، لأنه كان يبذل له من هذه المحاصيل بسخاء، كما كان من القلة التى تزرع الموز فى القرية، ولم يبخل أبدا على أن يرسل له (سُبَاطة) فى كل موسم، وعندما سمعت كلمة (نعيما) كان شكلى فى المرآة قد تغير تماما، لدرجة أننى لم أعرفنى، فقد تحولت خلقتى من مظهر الإمارة الذى كنت عليه فى الصباح إلى ما يشبه جنود الأمن المركزى، ولم يجد أبى ما يجرجرنى منه إلى المنزل سوى ياقة جلبابى. وفى طريق عودتنا دلف إلى أحد دكاكين البقالة واشترى لى العُشر الأخير من القرآن، أجزاء (قد سمع، وتبارك، وعم) فى مجلد واحد كالذى يحمله الصبية الكبار، وفى المنزل قام بتغليفه بورقة من ذلك النوع السميك الذى كنا نبتاع فيه سكر التموين، وهى تقريبا نفس خامة الورق الذى كنا نبتاع فيه اللحم من الجزار. وقد نبّه على أمى ألا تصطحبنى فى الغد إلى الكتاب، وبذا تكون كل أوامر سيدنا قد تم تنفيذها بالحرف، بل وزاد عليها أبى أن جعلنى نمت مبكرا، فأطفأ مصباح الكيروسين بعد أذان العشاء مباشرة، كما أطفأ جهاز الراديو وقذف به فوق الدولاب، مُنهيا بذلك أحداث أطول يوم شهدته طفولتى المبكرة.


تلك كانت مجرد صفحة من دفتر حياتى، وقد عمدت إلى أن أختمها بأحداث (أول أيام رحلتى التعليمية) فى كتاب سيدنا، فتكون آخر مشاهد تلك الصفحة هى تلك التي جرت أحداثها عند التقائى بذلك الرجل (الرمز) الذى كان البوابة الأولى لدخولى كل أحداث حياتى التعليمية، فقد كان صاحب الفضل الأول - بعد الله – فى تعليمى أولى خطوات القراءة والكتابة وتحفيظى معظم القرآن، ولقد تنبأ – بخلاف الكثيرين – أن (شقاوتى) لا علاقة لها بإمكانية تقدمى الدراسى، وكثيرا ما كان يراهن على ذلك، ويفخر به حال حدوثه ويفاخر، وقد عُمّر سيدنا طويلا؛ فلم يتوفاه الله إلا وأنا فى المرحلة الثانوية، وقد بكيت رحيل هذا الرجل بحرقة أظنها منقطعة النظير. أما أبى فهو لم يمت إلا بعد أن حضر مناقشتى لرسالة الدكتوراه 1998 بعام وشهر، ورغم أنى لم أُرزق الإنجاب إلا بعد سبع سنوات عجاف، شأنى شأن أبى، لا يفرق بين ظرفينا فى الإنجاب سوى أن أولاده كانوا يموتون صغارا، فى حين لم أكن أنا لأنجب من الأساس لأسباب لا يعلمها إلا الله؛ إلا أن الله قد قيض له أن يرى ابنتى (آية) إذ وَلَدَتْها أمها فى نفس عام حصولى على الدكتوراه بعد شهر واحد من المناقشة، فكان عام 1998 هو أسعد أيام عمرى، وقد توفاه الله يوم عيد ميلادها الأول 1999، فحمدت الله كثيرا على أنه عاش ليرانى لم أمت طفلا، وأنه شهد بأم عينيه حصولى على مؤهل أعلى من شهادة (جلال أفندى) وأنه شهد مولد حفيدته وعاصرها لمدة عام كامل، ثم قُبض وهى تضحك فى حجره. وأما أمى فكانت هى آخر من غادر المشهد 2006 فقد عاشت ثمانية أعوام بعد حضورها مناقشتى لرسالة الدكتوراه، ولم تلحق بأبى إلا بعد تسع سنوات من رحيله، كان الله قد مَنّ علىَّ خلالها بإبنى (أحمد) الذى رزقنى الله به 2002 فعاصرته أمى أربعة أعوام، أصبح عندها أغلى منى، وماتت هى الأخرى وهى تحتضنه بين ذراعيها، فكان آخر من شاهدته فى الدنيا. 


خمسون عاما مضت من حياتى، لم أذكر لك منها سوى القليل من مطالعها، وإذا كانت ملامح الحياة وخطوط سيرها التى لم أسردها خلال بقية هذه الخمسين عاما قد تبدلت بشكل ملحوظ؛ فإنى أستطيع الجزم مطمئنا بأن القواسم الإنسانية كانت – وستظل- مشتركة بين كل مراحل الحياة، مهما تغيرت أو تطورت أنماط عيشها؛ لأنها سرمدية الوجود، فناموس الكون يُطبق بنفس المشيئة والحتم الإلهيين (أرحام تدفع وأرض تبلع) وطوال كل الرحلة - من المنبع إلى المصب - يحيا الناس فى الدنيا ويموتون بنفس الغرائز والجبلات، يلتفون بعملية (التناسل) على فكرة (الموت) ويجدون فيها العزاء على حقيقة الرحيل الذى لا مناص منه، وكأنهم بحرصهم الشديد على الإنجاب وترك الذرية يحتالون على فلسفة الفناء، ويصنعون امتدادهم باستخلاف أبنائهم، ومن ثم فإن مناهل سعادتهم ورضاهم فى هذا الشأن تكاد تكون واحدة، وبالمثل بواعث شقائهم ودوافع قهرهم. غير أن المعرفة المقترنة (بالوعى) ستبقى هى المعيار الوحيد المُفرّق بين ذات وأخرى، وبين جيل وآخر، وبين بيئة حضارية وغيرها، وبالجملة بين ضباب الوهم ونصوع الحقيقة؛ ذلك أن الوعى هو مرجعية الإنسان القسرية التى تحثه على مُنتَج سلوكى بعينه،نابع من الفكر ومرتبط بخزانته، ولذلك فلا سبيل إلى التعامل بنجاح مع خيارات الحياة المتاحة، إلا بمقدرة الإنسان فيها على التفرقة الدقيقة بين الوسائل والغايات، وتلك مقدرة لا يتحمل مسئوليتها إلا الوعى، ولا شىء غير الوعى.

أزمة فرحة - د. أمين السعدني

  -  كم كنت أتمنى اليوم أن أستطيع ملامسة الفرح واستنشاق عبيره ، وأن أغالب حالة التصخر الإنسانى البشعة ، التى تكلس القلب وتزدرى الضمير ، وأن أنتشل ذاتى التى توشك على الغرق فى أسن ذلك الدوار المقيت ، الذى ينهش الفطرة ويشوه الاستقامة ؛ غير أن تلك  الظروف العصيبة التى تجتازها بلادى ، فى هذه المرحلة الإستثنائية الحرجة من تاريخها ، قد جعلت نفسى لا تطاوعنى أن أقارف الشعور بفرحة قلما يحنو بمثلها الدهر ، وكأنى - والله – لو صافحت الفرحة فى هذه الظروف ؛ لأصبحت يدى ملطخة بعار الخيانة ، ولأصبحت كائنا مدنسا ، قاده السفه إلى أن يسقط  – بوحى الخزى - من ربا الشرف ومعارج الارتقاء ، إلى مدارك التدنى وسفوح الخطيئة ، فحقا ، ما أعز الفرحة وأندرها فى زمن القبح والتنطع ، وما أنأى الغبطة والحبور وأبعدهما عن ملاقاة الروح ، فى أيام القلق وليالى الإرتجاف .

   -  غير أنى قد وجدت لزاما على نفسى ، رغم غصة الحلق ومرارة الشعور بفقدان الصواب ، ورغم ما يكتنفنى من مأساة التلاصق البغيض بين الأسى والرضا فى هيكل إنسانى واحد ، وذلك العيش الذى يتأرجح بين فضيلة المبدأ وهوس الغواية ، رأيت فى خضم كل ذلك التشوش وذاك التيه ، أن أنتحل – ممتعضا - صفة الاستواء ، وأزف إليكم نبأ حصولى على وسام مصرى رفيع القدر ، يعلو قامتى ، ويسمو فوق هامتى ، ويجاوز كل دلائل ضعفى وأمارات بساطتى ، ذلكم هو ( جائزة الدولةالتشجيعية ) فى مجال الفلسفة السياسية ، ذلك الحقل العلمى الشائك الذى أنفقت جل عمرى بين دراسته وتدريسه ، والعيش تحت أقبيته وفى مجاهل سراديبه ، فجاءت هذه الجائزة فى ذلك المجال ، تتويجا أكاديميا رفيعا لجهد مضى ، أحمد الله أنى بذلته بكل دأب وتفان ( أو هكذا أدعى )  وتحفيزا حياتيا لجهد آت ، يلزمنى أن أحافظ - ما تبقى من عمرى - على دوام حسن الظن بى ( أوهكذا يجب ) .

  -  وإذا كان شكر الناس والاعتراف بأفضالهم من لوازم وموجبات الشكر لله سبحانه وتعالى ؛ فإنى أتقدم بأسمى آيات شكرى وتقديرى وعرفانى وامتنانى، وكل ما يربو على ذلك ويستعلى ، إلى أساتذتى الأجلاء وزملائى الأفاضل ، أعضاء هيئة التدريس الموقرين ، فى قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنوفية ، الذين آزرونى بإخلاص ، ووقفوا بكل نبل وشموخ وراء ترشيح الجامعة لى لنيل هذه الجائزة ، والتى ما كنت لأحصدها لولا خالص دعمهم وصادق مساندتهم ، فلهم ولكل أساتذة جامعة المنوفية الكرام ، من رئيسها إلى أحدث معيد فيها ، وكذلك لجامعة الإسكندرية العريقة ، التى تخرجت منها ، ونهلت من بحر علمائها الجهابذة الأساطين ، أهدى هذا الإنجاز ، وأضعه - منحنيا - بين أيديهم .

  -  وبالطبع ، فإنى أهديه - بنفس الوصف – إلى كل أحبائى وأعزائى من طلابى وأصدقائى ، الذين كانت ستعوزنى بدونهم الوسيلة ، ويزيغ من أمامى القصد ، أولئك الذين كانوا فيضا دافقا أستقى منه الرشد والجدارة ، وقناديل أقتبس من نورها أضواء الشرف ومراتب الاستحقاق ، أولئك الذين طالما وجدتنى متلبسا بسكناهم فى بؤرة عقلى ، موجهين ومرشدين ، فأسقطتهم على قلمى وأوراقى كراما كاتبين . فلعلهم اليوم يمارسون الفرح عن نفسى بالوكالة ، ويسعدون عنها بالنيابة ، فأكون قد بادلتهم عطاء بفرح ، وقايضتهم رضاء ببذل .

  -  وفى النهاية ، إذا كان هذا التقدير قد جاءنى من مصر ؛ فلا يسعنى سوى أن أخر لله ساجدا ، ثم أهديه – عاجزا عن رد الجميل – إلى مصر ، أناسا وأرضا وسماء وشمسا وقمرا وهواء وترابا ونيلا وعطرا وسؤددا ، وبالجملة ، وطنا خرافيا يستعصى على الوصف ويعانده ، وتقصر بذاخة المفردات والتعابير عن رسمه وتعيينه ، وتضيق رحابة اللغة على الإحاطة بقدره ومقداره وقدرته. والحمد لله رب العالمين .

 أمين حافظ السعدنى .

هل أتاك حديث الجامعة ؟ - د. أمين حافظ السعدنى


لفرط تضخم اسم ( الجامعة ) فى مخيلتى ، وعملقته كأكبر كيان علمى يربض فوق سنام المجتمع ، وباعتبار الجامعة أصل انبعاث الفكر والحضارة ، وسلم الصعود إلى مدارج الرقى والمدنية ، ومعبر الدخول إلى عالم السمو والرفعة والاستنارة ، ومصدر الإشعاع الثقافى والروحى والإيمانى والتربوى ، وبالجملة هى مصنع إنتاج الضمير الإنسانى فى عالمنا المعاصر ؛ فإنى قد تصورت أنها لن تقبل التحاقى بها كمعيد ، مهما كنت متفوقا ، ومهما كانت درجاتى عالية أو تقديرى مرتفعا ، وحتى بعد تعيينى بها معيدا ، ثم حصولى على الماجستير والدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى ، ثم ترقيتى إلى درجة أستاذ مساعد فى تخصصى ، ثم حصولى على جائزة الدولة فى ذات التخصص ، فإنى لازلت إلى وقتنا هذا أشعر أمام لقب ( أستاذية الجامعة ) بالصغر والهشاشة والضحالة وربما التقزم ، ولا زلت إلى الآن أهاب اللقب وأخشاه كأنى سارقه أو منتحله ؛ فلا تزال تسكننى الصورة ( القديمة ) لأستاذ الجامعة كمخلوق فوق العادة ، ولولا بعض إيمان لاعتقدت أنه يوحى إليه ، وكثيرا ما ساءلت نفسى : من أنا وماذا أكون ، أمام تلك الصورة التى كانت ، والتى يجب أن تبقى وتكون ؟!!!

أقول ذلك بمناسبة إصدار المجلس الأعلى للجامعات قانونا صادما لأولى العقل وأصحاب البصيرة ، يجيز للحاصلين على تقدير (مقبول ...!!! ) أن يلتحقوا بالدراسات العليا بذلك المحصول العلمى الهزيل ، الذى انتزعوه بالكاد على مدار أربع سنوات ، ومن هؤلاء بالطبع من أنقذته درجات الرأفة ، ولا يجادلنى أحد بعد أكثر من ربع قرن قضيته بين أروقة الجامعات وداخل قاعات درسها ، فى أهمية التقدير العام للالتحاق بالدراسات العليا ، فالواقع المجرب يشير إلى أنه من بين كل دفعة تشمل حوالى 300 طالبا على سبيل المثال ، يسترعى انتباه المحاضر ( الواعى ) ما بين ثلاثة إلى خمسة طلاب على الأكثر، يتوسم فيهم النبوغ والطموح ، فيشملهم – إذا كان ذا ضمير - برعاية خاصة بدءا من عامهم الأول ، وتثبت الأيام صدق رهانه على تفوقهم ، فيلتحق منهم من شاء بالدراسات العليا ، ويواصل الأستاذ معه مسيرة الاحتضان ، حتى الحصول على اللقب العلمى المستحق ، فذلك فى الأصل هو النموذج والمعيار ، أما من شذ عن هذه القاعدة العريقة ؛ فإن شذوذ حالته إنما يؤكد القاعدة ولا يهدمها .

غير أن ما يحدث الآن ، وقد زاده قرار المجلس الأعلى للجامعات مأسسة ، هو أننا أصبحنا مجتمعا يعنى بالكم لا الكيف ، على ما تعج به جامعاتنا من كهنة وأحبار ( الجودة ) المزعومة ، والتى أصبحت نشاطا ورقيا تمارس فيه البيروقراطية بطابعها الشكلى المقيت ، وتستهلك ( طقوسها ) من الجهد والمال ما لو تم استثماره بحرفية جامعية لبلغنا القصد وأصبنا الهدف . أقول أن العبرة أصبحت فى فلسفتنا التعليمية بعدد الدارسين ، بغض الطرف عن نوعية تحصيلهم العلمى ، وبنياتهم العقلية ، وتكوينهم الفنى ، واستعدادهم المهنى ، ومدى تأهلهم لسوق العمل على الصعيدين الداخلى والخارجى ، وذلك فى الحقيقة من مخلفات العصر ( المباركى ) فذلك المبارك لم يكن يعنيه أمام الغرب سوى المباهاة بالأرقام ، أما فى الداخل فكان من أشد ما يمقته مبارك ويقض مضجعه هو كثرة عدد خريجى الجامعات المصرية ، ومحاصرتهم له بالبحث عن وظائف ، وكان لسان حاله كأنه يقول لهم ( أنا عارف وانت عارف ) وعموما فلم يكن التعليم عموما ولا أساتذة الجامعة على وجه الخصوص مما يعنى مبارك من قريب أو بعيد ؛ لأن الإنسان بطبعه عدو ما يجهل ، وقد اقترف مبارك من الجهل بأهمية العلم والعلماء ، ما صور له أن مزاعمه قد تنطلى على العالم ، فلم تنبهه من غفلته على المستوى الدولى تقارير تدنى مستوى الجامعات المصرية وهبوط ترتيبها إلى الحضيض ، وبالتالى نبذ سوق العمل العالمى للجامعيين المصريين ، أما فى الداخل فإن مبارك لم يرحل من فضائنا السياسى إلا بعد أن أضيفت البطالة وسوء الهيكل التعليمى إلى قائمة أسباب الثورة عليه ، إن لم تكن قد اعتلتها .

ويذكرنى صدور قانون المجلس الأعلى للجامعات فى هذا الشأن ، بالقانون الذى أجاز لدفعة عبد الناصر أن تتخرج بعد ستة أشهر فقط من الكلية الحربية كضباط فى أربعينيات القرن الماضى ، غير أن ذلك القانون كان استثناء اقتضه ظروف عسكرية تتعلق بحاجة الجيش المصرى آنذاك لعدد كاف من المؤهلين لمواجهة عربدات العدو الصهيونى فى فلسطين ، فهل ترانا الآن فى حاجة ملحة وعاجلة إلى مزيد من حملة الماجستير والدكتوراه ؟ وهل تصلح فلسفة التعجل أساسا فى إعداد هذه الكوادر بالذات ؟ هل ثمة أية ضرورة تحثنا على هذا الإجراء العجيب المثير للريبة والغثيان فى نفس الوقت ؟ هل تقدير ( جيد ) صعب الحصول عليه ؟ هل من حصل على هذا التقدير البسيط قليلون فى المجتمع كى نهبط بمعيار الالتحاق بالدراسات العليا إلى أحط تقدير وأدناه ؟ ولكن قبل أن تتطوع أنت بالإجابة عن تساؤلاتى هذه ، وقبل أن أفتيك أنا ، أحب أولا أن أسجل فى هذا المقام صادق أعترافى وتعهدى - أمام الله قبلكم – أنى سأكون أول السعداء بوجود 90 مليونا مصريا يحملون درجة الدكتوراه ، فأن تعيش فى بستان المتعلمين ( بحق ) وتستظل بوارف دوحتهم ، لهو الجنة على الأرض ، وذلك شعورى حتى ولو كنت أميا ، فما بك إذا كنت أنا ممن يصنفون أنفسهم على المتعلمين ؟

ولكن ترحيبى مقترن بشرطين أرى أنهما أساسيان ، الأول أن يكون حملة هذه الدرجات يستحقونها عن جدارة علمية وأخلاقية معا ، ولا يظنن أحدكم أنى أربط بأى وجه من الوجوه بين حق الباحث فى الحصول على درجته العلمية ، وبين حق أستاذه فى أن يمارس عليه أى نوع من أنواع ( السادية ) تحت أية ظروف ، فضلا عن أن الباحث ( الحق ) لا تمارس عليه السادية أصلا ، حتى ولو كان مشرفه مصابا بدائها اللعين سواء بشكل سافر أو مستتر . أما الشرط الثانى فهو ضرورة بلوغنا درجة من الوعى ، تجعلنا لا نربط بين الحصول على الدرجة العلمية وبين العمل بها فى ( الجامعات ) على وجه التحديد ، فنخضع لمنطق الواقع وفلسفة الضرورة ، إذ لا توجد جامعة على مستوى العالم تلتزم أمام باحثيها بتعيينهم كأعضاء هيئة تدريس فيها أو فى غيرها حال حصولهم على هذه الدرجات ، وإنما يخضع سوق الجامعات لما تخضع له آلية بقية الأسواق ( عرض وطلب ) فإذا أعلنت الجامعة عن حاجتها لشغل درجات علمية بشكل لاتعوزه الشفافية ، فليتقدم لإعلانها من يشاء ، وعليها أن تفاضل بمعايير منضبطة بين المرشحين ، ثم تختار من بين المتقدمين ما تنطبق عليه شروط القانون ومواصفات الوظيفة التى أعلنت عنها بشكل واضح وصريح ، وعلى من فاته من هؤلاء قطار الجامعة ، فليعلم أن الجامعة ليست هى مكان الاعتراف الأوحد بدرجته العلمية وقيمته الاجتماعية ، فحامل الدرجة عن استحقاق لا يعنيه ( بشكل مفزع ) مكان عمله بها ، حتى ولو عمل وهو يحملها فى محطة وقود ، كما هو الشأن فى أكثر الدول تقدما وازدهارا . 

ولعل الشرطين اللذين ذكرتهما لك مترابطان ؛ فالتساهل المفرط فى قبول الباحثين ، وفتح باب الدراسات العليا على مصراعيه للهواة واللاهين والعابثين الذين يقتلون به الوقت من الدارسين والدارسات ، خصوصا أولئك اللاتى يجعلن من التردد على الجامعة ذريعة يتعللن بها أمام المجتمع للفرار من شبح العنوسة وعار البوار ، والانفلات من سجن المنزل وقبضة التقاليد ، فما أوجهها من حجة لمصادفة عريس ، أو ما أيسرها من تسلية لحين تواجد أية وظيفة مجزية ماديا ، حتى ولو قل شأنها أو جاءت منبتة الصلة بحقل التخصص الدراسى ، أو ما أمتعها من مغامرة قد يجنى منها الحسنيين معا . أقول أن تساهل الجامعات فى شروط قبول دارسيها قد جعل منها مرتعا لمثل هذه الممارسات البغيضة والمسالك المزرية والأهداف الدنيئة ، التى نعانى من تبعاتها كل يوم وساعة ، وكم من هؤلاء قد اعترف لى صراحة أنه يتسلى بالدراسات العليا بدلا من الفراغ ، أما أكثرهم جدية فإنه من الموظفين فى أجهزة الدولة المختلفة ، الذين يسعون للحصول على هذه الدرجات العلمية من أجل اغتنام ترقية استثنائية فى وظائفهم ، أو زيادة بضعة جنيهات فى رواتبهم الحكومية المتدنية .

وكان من الطبيعى جذا أن ينقلب السحر على الساحر ، عندما فوجئنا فى غفلة جماعية - لا استثنى نفسى منها - بمن لم يكونوا يجيدوا الكتابة بالعربية – ناهيك بأية لغة أجنبية – أثناء دراستهم فى مرحلة الليسانس ، أنهم يحملون درجات الماجستير والدكتوراه بالتقدير الشعبى المتواتر فى الجامعات المصرية ( مرتبة الشرف الأولى ) ومن يحصل منهم على مرتبة الشرف الثانية ، وهو فى الواقع يكون حينها مستحقا للسجن ، فإنه ينظر إلى أخلاقك بريبة شديدة ، وكأنه كان قد أمضى زهرة شبابه عاكفا فى السوربون ، وجئت أنت مستلبا لجهده ، وضاربا عرض الحائط بأمارات عبقريته .

أما ثالثة الأثافى – كما يقولون – فهى إلحاح هؤلاء بشكل بغيض على العمل بالجامعات بالذات ، دون غيرها من المؤسسات حتى ولو كانت مراكز بحوث علمية محترمة ، بل اعتقادهم الصارم أن ذلك هو فرض عين على الجامعات ، وقد أطمعهم فى ذلك – للأسف – وحرضهم عليه وجود من تسللوا ( ممن هم على شاكلتهم ) للعمل بالسلك الجامعى ، أولئك الذين تهاونوا فى منح هذه الكائنات أعلى الدرجات العلمية ، فطمعوا فى كراسى الجامعات ، وأطمعوا الصبية من بعدهم فى الالتحاق بركبهم بتقدير ( مقبول ) ولا لائمة فى ذلك إلا على الأساتذة ، الذبن لو أذن الله لأحجار الكليات أن تنطق بكلمتين اثنتين ؛ لقالت لهم الأحجار ( أنتم أدعياء ) نعم هم أدعياء .

أولئك الذين اعتبروا الأقسام العلمية ملكا خاصا لا ينازعون فيه ولا يزاحمون ، ولا يحق لغيرهم أن ينهش لحوم طلابه ويمتص دماء باحثيه ، ويلعقون سحت الكتب والمذكرات والملخصات وكمبيالة ( الشيتات ) وبدلات المجالس واللجان والمناقشات وطعام الفنادق لزوم المؤتمرات ، أولئك الذين تغرك سياراتهم الفارهة وحللهم البهية ورابطات أعناقهم الفاخرة وأحذيتهم اللامعة وحقائبهم المنتفخة ونظاراتهم السميكة وألسنتهم المعسولة ، فتتوهم فيهم العظمة وما هم ببالغيها حتى يلج الجمل فى سم الخياط ، أولئك الذين يتقاتلون فى مجالس الأقسام على ساعات التدريس ولا يلتفتون فيها إلا لعدد طلاب الدفعة ويعدونهم بالرأس كما تعد المواشى ، من أجل حصيلة مؤلفاتهم الهابطة إذا كانوا قد قاموا بتأليفها من الأساس ، أولئك الذين ما أن يلوح زميل لهم بسفره إلى الخارج فى مهمة علمية أو لإعارة قصيرة ، حتى يهولك ما يفعلون بجدوله الدراسى من ( إعلام وراثة ) على حياته وأمام ناظريه بلا خجل ولا استحياء ، فكيف ينتظر من أمثال هؤلاء أن يفسحوا مجالا بينهم لمن يستحقون العمل بالجامعة ، وإذاكان من يستحقون – بالفعل - كثيرون كثرة من لا يستحقون ، إلا أن همى فى هذا المقام جاء منصبا على الصنف الثانى ، أولئك الذين غفل أمثال هؤلاء الأساتذة بل أكاد أجزم أنهم تغافلوا عن شرعية حصول هؤلاء الحثالة على درجاتهم العلمية الرنانة ، لعدم اهتمام أنصاف الأساتذة بما تم منحه لهم أو الاعتناء بجدة محتواه ، فكانت النتيجة أن سلط الله على هؤلاء أنصاف الأساتذة - بحكمته وعدله - من يقفزهم إلى إصدار قرار يعنيهم ، دون الرجوع إلى من يعنيهم قراره ، إلا بطريقة ذر الرماد فى العيون ، رغم أن رؤساء الجامعات الذين انتخبناهم ، هم أنفسهم أعضاء المجلس الأعلى للجامعات الذى أصدر هذا القرار المأساوى ، ولكن على أية حال هم أدرى الناس بخلق من انتخبوهم ، فأهل مكة أدرى بشعابها .

وللحديث بقية ، ربما أقول فيها كل ما أعرف ، وهو كثير . 

فى رحاب الجزار - د. أمين حافظ السعدنى

عينت معيدا فى كلية الآداب جامعة المنوفية 1987 ، وهو أول عام افتتحت فيه هذه الكلية بمدينة شبين الكوم ، وكنت قد تخرجت قبلها بعام من كلية الآداب جامعة الإسكندرية ، التى لم يشأ الله أن أعين بها ، لأسباب يطول شرحها ، وليس هنا مقامها . وكان حلم عمرى أن يتم تعيينى فى تلك الجامعة التى تخرجت منها . وأظن أن أحدا لا يخالفنى فى الإحساس برغبة أى متفوق قدّر له التعيين فى هذه الوظيفة ، أن يكون هذا التعيين فى نفس جامعته التى تخرج منها. فكم كانت رغبتى جامحة فى أن أكمل مسيرتى ، أو بالأحرى ، أبدأها فى جامعة الإسكندرية التى تخرجت منها لتوى ، وكم داعبنى – فى اليقظة والمنام – حلم أن أحاضر فى تلك  القاعات التى كنت فيها طالبا إلى الأمس القريب ، وأن أكون زميلا " صغيرا " لتلك الكوكبة من الأساتذة الذين خلبوا فؤادى وأنا أختلف إلى دروسهم طيلة أربع سنوات .

وفضلا عن انبهارى بأساتذتى فى جامعة الإسكندرية ، وهو الانبهار الذى تطور إلى الافتتان ، بعدما انسحب إلى حللهم وهيئاتهم وحركاتهم وسكناتهم ؛ فقد كنت مأخوذا بمدينة الإسكندرية بشكل مَرضى ؛ فلم تكن بالنسبة لى مجرد مدينة ربطتنى بها كلية الآداب ذات التصميم الكاتدرائى فى حى الشاطبى العريق ، بمجمعه الأكاديمى المهيب ، والذى تتلألأ سماؤه بهذه الثلة من العلماء ؛ وإنما كانت الإسكندرية عندى براحا وجوديا خلابا . وقد استقبلتنى نازحا من ضجر القرية وسكون الحقل وسأم الوحدة وكل كهوف الحزن ، فأنخت فيها راحلتى الإنسانية قبل التعليمية ، ورفعت فيها رأسى ونفسى ، معانقا ذلك الفضاء الكوزموبوليتانى العريض ، فى تلك الواحة الفاتنة الساحرة الراقصة على أنغام البحر ، والمستنفرة لهمم الحب وطاقات الخيال ، لقد عاشت فىّ الإسكندرية (ندّاهة) وعشت فيها (مجذوبا) . وطبيعى جدا أن تعيش الإسكندرية وتبقى بدونى ؛ ولكن الذى لم أكن أتصوره أن أحيا أنا بدون الإسكندرية ، غير أن للأقدار شأنا آخر ، فقد أُكرهت على خروجى منها ، وقسرا حولت وجهتى إلى جامعة المنوفية وكلية آدابها الوليدة آنذاك .

سبحان الله ، أعرف أن التراتب الحياتى يكون من قرية ، ثم إلى نصف مدينة ، ثم إلى مدينة بالمواصفات الحضارية المتعارف عليها ، وبذا يكون التصاعد سلسا وخاضعا لمنطق الترقى، أما أن أبدأ حياتى – طفولتها وصباها – فى قرية تغط فى نوم عميق استمرأته فى حضن النيل ، ثم تتوسط هذه الحياةَ المرحلةُ الجامعية فى مدينة الإسكندرية بكل وهجها ، ثم يتوارى هذا الوهج فجأة عندما أُجبر على الانتقال إلى جامعة المنوفية بمدينة شبين الكوم، فإن هذا – لعمرى – فى المسير عجيب .

ومما زاد فى طينتى بلة ، حدوث انحدار آخر غير الذى كان من مدينة إلى شبه مدينة ، وهو ذلك الانحدار ، وربما الانحطاط من (مبنى) آداب الإسكندرية إلى (مبنى) آداب المنوفية فى ذلك الوقت ، الذى عندما كحلت عينى بمشاهدته أول مرة ، انتابتنى حالة من الذهول ، تبعتها حالة من الاشمئزاز العام ، تفاقمت إلى ما يشبه الإحباط ، ثم توقف الأمر قبل بلوغ الاكتئاب بمحطة واحدة . فقد كان ذلك المبنى أشبه بدوّار العمدة فى بلدتنا إبان سبعينيات القرن الماضى ، وقيل لنا أنه كان إحدى المدارس الإلزامية التى أنشئت على طرز معمارية عتيقة ، لذا لم تفلح معه أية محاولات للترميم أو التجديد ، واستعصى على كل حيلة تحديثية يمكن أن تهيئ له من أمره كلية .

ولست أدرى إلى الآن ، ماذا كان الدافع وراء سرعة افتتاح هذه الكلية بتلك الإمكانيات المخزية ،وذلك الوضع المهين للأساتذة والطلاب ؟! الواقع أنه لم تكن هناك حاجة ملحة إلى هذا الإنشاء المتسرع وغير المدروس . لقد بدأنا فى هذا (الدوار) بخمسة أو ستة أقسام علمية لا غير، يدرس فى كل قسم فيها ما لا يزيد كثيرا عن عدد طلاب فصل فى مدرسة ، إذن لم تكن هناك كثافة طلابية للإقليم تحتم هذه العجلة . وكان الطلاب يتلقون محاضراتهم فى قاعتين للدرس أو ثلاث ، شيدت فوق سطح هذا الشئ الذى يحاول عبثا أن يبدو ككلية للآداب ، وقد سقفت هذه القاعات بشبه ما تسقف به مواقف سيارات الأجرة . وأسفل هذا (الروف) يعج الطابق الثانى – على محدوديته – بمكتب عميد الكلية ، ومكتبين للوكيلين ، ومكتب للأمين العام ، ومكتب واحد لكل قسم علمى بأعضاء هيئة تدريسه وسكرتاريته ، ومكتبين اثنين لجميع أعضاء الهيئة المعاونة، وكنا معشر المعيدين آنذاك من سكان هذا التجمع . ثم عندما (ننحط) إلى الطابق الأرضى ، الذى هو أشبه بالبدروم منه إلى إدارة المرور ؛ نجده يشتمل على مكاتب كل الموظفين الإداريين وإدارة الحرس وبقية المرافق الخدمية للكلية ، ويواجه كل هذا فناء صغير (حوش) تتبعثر فيه – بشكل عشوائى – بضع سيارات متواضعة لعلية القوم من رواد هذا المكان ، أزعم أن ثمن إحداها فى ذلك الوقت يشترى اليوم هاتفا نقالا من الماركات المتوسطة .

وبالإضافة إلى تفرد كليتنا التى بدأنا العمل فيها بهذا النسق المعمارى الفذ : بدروم ، وطابق وحيد ، وروف ، فضلا عن الحوش بالطبع ؛ فقد حباها الله والراسخون فى العلم موقعا لا يقل فى تفرده عن تفرد سحنتها . فيبدو أن أحد أشاوس المسئولين قد توكل على نفسه ، ثم استخار الشيطان فى هذا الموقع العجيب ، فوسوس له بهذا المكان الذى ينأى عن كل المجمعات العلمية بالمدينة ، وعن كل الأماكن الحيوية فيها ، فأبرك هذا المسئول ناقته على مقربة من سجن المدينة العمومى على الأطراف الجنوبية للبلدة ، فكان قبر بكر بأرض قفر ، وأصبح الأمر حشفا وسوء كيلة ، بعد تصور هذا المسئول أنه جمع علينا بين أبهة التصميم وعبقرية المكان . تالله ، لو جاءت كل أمة بأراذل مسئوليها ، وجئنا نحن بمسئولنا هذا لرجحناهم .

لقد حالت قريحة هذا الملهَم دون بلوغنا كلية الآداب إلا بإحدى طريقتين لا ثالثة لهما غير الهلاك ترجلا ، فإما أن نستقل (الحناطير) وهى وسيلة – رغم فولكلوريتها – لم تكن متاحة إلا لذوى اليسار منا ... ! وإما أن نعبر ترعة المدينة التى يسمونها بحرا ؛ لأنها تشق المدينة إلى برّين، شرقى وغربى ، تتوسطهما هذه القناة ، وكانت كليتنا (شرق القناة) غير أن (العبور) إلى الشرق كان يتم على ظهر أحد المراكب البدائية القديمة التى لم يخلق مثلها فى البلاد (معدية) وفى رواية (صندل) ولا أنسى يوما انزلق فيه من بيننا أحد الأساتذة المكفوفين من فوق سقالة هذه البارجة ، فسارعنا بالتقاطه من وحل هذه الترعة ، وأبدينا له أسفنا واعتذارنا ، ولم نأل جهدا فى مواساته ومحاولة إرضائه ، خاصة وأن الرجل أولا يحمل درجة الأستاذية ، وثانيا كفيف ، وثالثا هو منتدب من جامعة طنطا للتدريس فى كليتنا (أى ضيفنا) ولذلك استفرغنا كل طاقاتنا لاسترضائه ، غير أن كل ذلك لم يثن عزمه عن قرار اتخذه لتوه ، لقد أقسم – بعد أن نظفناه مباشرة – أن يوم موقعة المعدية هذا ، لهو آخر أيام انتدابه عندنا ، ولم يحنث .

اشتدت وطأة هذه الحادثة الميلودرامية على نفسى ، وألقت بظلالها الرمادية عليها ، وأرمزت تداعياتها إلى القهر بغرائب تجلياته ، وازداد تنازعى بين ماض الإسكندرية وحاضر شبين الكوم ، بين بحر الدنيا يعزف سيمفونية المحار فى الأولى ، وبين الموت كمدا فى ترعة الثانية ، بين ركاب ترام وقطارات وتاكسيات الأولى ، وبين ركاب الحناطير والصنادل بمن كان يجاورنا فيها من بائعى الطماطم فى الثانية ، بين الصباح والمساء فى المكانين ، بين كل مظاهر الحياة وزخم الدنيا فى (قصة مدينتين) وكنت فى كل ذلك كمن يقارن فى نفسه بين عرس ومأتم .

لم يكن أمامى من سبيل آنذاك سوى أن أكفر بالمكان ، أقصد (فلسفة المكان) فأطوع الجغرافيا للتاريخ ، والتاريخ عندى هو الإنسان ، غير أن ذلك يستلزم عنفوانا وجوديا يساعد على تشكيل اللوحة الجديدة المزمع رسمها ، اللوحة التى يطغى فيها الإنسان على المكان ، ويصبح فيها المكان محيطا باهتا لا يكاد يبين ، إلا إذا استحضره العقل مصاحبا تكميليا لجوهر اللوحة (الإنسان) هنالك ينفرط عقد المكان وتنحل عقدته ، ليشيد العقل على أنقاض وثنيته معمارا سويا ، لا أظنه إلا أيقونة الإنسان .

والواقع أن فكرة مركزية الإنسان وفوقيته على المكان ، ليست من اكتشافاتى العلمية ، ولا من اجتهاداتى الفقهية ، وإنما هى حقيقة مسلّم بصوابيتها ، بل ببديهيتها ، منذ أن خلق الله الأرض وإلى أن يرثها . كل ما هنالك أن طاقة هذه الحقيقة كانت معطلة أو خاملة بشكل مؤقت فى نفسى، وذلك إبان الفترة التى تسلل إلىَّ الشيطان فيها من ثغرة الفلسفة الباطلة للمكان ، فكم أغرانى حينها بأن أرمى بحبلى على غارب النكوص ، عساه يفلح فى أن يحملنى على صهوة الفشل . غير أن جذوة (الإنسان) قد اتقدت بداخلى من جديد ، وساهم أناس (إنسانيون) فى اكتشافها ، وعملوا جاهدين على إعادة إنتاجها . وكان (ولا يزال وسوف يظل) على رأس هؤلاء ، من خصصت هذه السطور لأحدثكم قليلا عنه .

لقد دعوت الله متضرعا فى هذه المرحلة الانتقالية الحرجة من حياتى أن يُنعم علىَّ بمنقذ من الضلال ، عساه يهدينى ، ويتسع صدره فيحتوينى ، ويربت بنفسه على نفسى فتستقر ، ويدفع بعجلة حياتى إلى الأمام فتستمر ، وينتشلنى من ضيقى إلى رحابته ، ومن تقزمى إلى علو هامته ، ومن صغائر ما يهزمنى إلى عظائم ما يعيننى على النصر . وكان فضل الله علىَّ عظيما ، فلم يحدث أن عاجلنى الله بالإجابة ، بمثل ما عجل بعثورى على هذا الإنسان الذى انشقت الأرض عنه فى وقت كادت أن تميد بى ، وكأنى بهذا الإنسان يقول : دع عنك المكان، أنا هنا ، فأقبل . وجدتنى أهرول إليه على غير عادتى فى التقرب من الناس ، وكأن محيطه الإنسانى جاذب ، لا ، إنه (ندّاهة) إنسانية .

عانقت روحى روحه ، فأقفلت عليه ذاتى راضيا مرضيا ، لا أريد منه فكاكا ولا أبغى عنه حولا ، ولّيتُ وجهى شطره ، وأصبح قمر النجوم فى مجموعتى الإنسانية ، ودون إخلال بحق النجوم فى حياتى ، ولا إغماط لأقدارهم عندى ؛ فإن القدح المعلى يبقى عندى للقمر دون النجوم . لقد تلبسنى هذا الإنسان بشكل جنى ، واحتكر – بشرعية العلاقة – سلطة ممارسة الضبط على نفسى ، من توجيه وحث وأمر ونهى وترغيب وترهيب ، دون أدنى تنافر أو تعارض بين ذاتى المتلقية وذاته المرسلة ، ووجدتنى أستحضره – غائبا كحاضر – فى كل ما يعن لى من تفضيلات ، صغيرها وكبيرها ، يسيرها وعظيمها ، فأقيس الأمور بمقياسه ، وأزنها بميزانه ، وأفصل غثها عن سمينها بغرباله . وبالجملة ، أعرض على كينونته كل رؤاى ، فإن أجازها وإلا تراجعت بكامل قناعتى ، ولم لا ، بل وكيف لا ، وهو مقياس إنسانى اعتمدته لنفسى رمانة الميزان . ذلكم هو / محمد فكرى عبدالرحمن الجزار ، الذى عرفته آنذاك معيدا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة المنوفية ، والذى أصبح منذ ذلك الحين ولمدة ما يقرب من ربع قرن قبلتى الإنسانية الأبدية .

كانت كليتنا القديمة – كما سبق وذكرت – محدودة للغاية من ناحية الشكل ، ومن ناحية من تنتظمهم من أعداد الأساتذة والطلاب ، ورغم مساوئ ذلك ، فقد كانت الميزة الوحيدة لهذه المحدودية ، أنها ساهمت بشكل كبير فى سرعة تعارفنا وتقاربنا ، وهو ما افتقدناه بعد انتقالنا إلى المقر الجديد الضخم (لا الفخم) لكلية الآداب ، بعد ست سنوات عجاف قضيناها فى المبنى القديم. ولذلك فإن وشائج العلاقة بين الأساتذة كانت تنقسم إلى نوعين : علاقات الرعيل الأول ، وهى أقدم العلاقات بين من بدأت بهم الكلية فى مكانها وعصرها القديمين ، ثم علاقات ما بعد الهجرة ، أى تلك التى تكونت فى المقر الجديد للكلية ، ولا تزال هذه التفرقة شبه قائمة حتى الآن.

فى الكلية القديمة التى ابتدأنا بها وابتدأت بنا ، التقيت أناسا ذوى تخصصات دراسية شتى، يحملون درجات علمية مختلفة ، وبالتالى فى مراحل عمرية متباينة، جاء معظمهم إلى آداب المنوفية الوليدة آنذاك من جامعات مصرية متعددة ، من القاهرة ، وعين شمس ، والإسكندرية ، وطنطا ، وكليات مدن القناة وغيرها ، فضلا عن أناس من أصحاب الأرض ، أى الذين هم من المنوفية أصلا
وتعليما ، فكانوا بمثابة (الأنصار) الذين هاجرنا نحن إليهم ؛ غير أن (المهاجرين) كانوا آنذاك على أية حال أكثر منهم عددا وعتادا .

كان الجزار بين كل هؤلاء طرازا فريدا من البشر ؛ وأول أمارات تفرده – وإن لم تكن أهمها – أنه كان خريج جامعة بيروت العربية ، وأشك كثيرا فى أن تكون هذه الجامعة قد خرّجت معيدا نابغة قبله ولا بعده ، وتلك قصة يعرفها كل الذين يعرفونه ، ويتندرون بها لغرابة مقدماتها عن نتيجتها ، ومفارقة مبتداها لمنتهاها . كما أن الجزار قد زاده الله بسطة فى العلم دون الجسم ، فجسده نحيل بغير هزال ، والحق أنه لو كانت الأجساد تجرى على الثقافة ؛ لكان الجزار كبرج القاهرة ، أو منارة الإسكندرية . ويبدو أن نحالة جسده قد ساعدته على أن يكون فى نشاطه كالنحلة ، فهو يمشى بخطى سريعة وثابتة فى آن ، ويتحاور ويتجادل مع المجموعة الكبيرة وفى موضوعات مختلفة بصوت جهورى أخاذ ، كما أنه من أتباع المدرسة المشائية فى محاضراته وربما فى مكتبه ، وهو لا يرتبط بالمواعيد الروتينية لليوم الدراسى الجامعى ، فتراه يحاضر إلى وقت المغرب ، وقد يكمل بعض المناقشات فى مكتبه ، وترى مريديه يتحلقونه كشيخ عامود فى أحد أروقة الأزهر ، ويتغشون مجالسه بانتظام ، فيهش لهم ، ويناقشهم ، ويمازحهم ، وينتقدهم ، وربما يشتد على أحدهم ، فيعنفه بغير إساءة ، ويضاحك آخر بغير تهتك ، وهو فى كل هذا يقف على مسافة واحدة من كل الناس ، لا فضل عنده لمسئول كبير على عامل بسيط إلا بمعياره الوحيد ، وهو المعيار الإنسانى .

لا يأبه الجزار لكثير مما نأبه له ، ولا يعير اهتماما لكثير مما ننشغل به ، أو نحتاط له أو نتحرز من مزالقه ، فهو يحيا الدنيا كما يريد هو أن يحياها ، لا كما يراد له العيش فيها ، يراعى قداسة التقاليد المعقولة ، والمعقولة فقط ، أما نواميس الزيف والتبعية ، فلا يحل بدارها ، ولا يقف حتى على أعتابها . فهو شديد الاعتداد بذاته ، ويراها معياره لكل الأشياء ، يفعل ما يريد ، وقتما يريد ، وبأى شكل يريد ، حتى ولو خرج ذلك نسبيا عن نطاق المألوف ، فتراه يرتدى فى الصيف ما يراه الآخرون أليق بفصل الشتاء ، والعكس صحيح ، يتأنق بشدة فى غير مناسبة ، وقد يرتاد محافل كبرى بأبسط الثياب ، يطيل شعر رأسه جدا ثم يقصره تماما ، وإذا استطال من جديد تراه يمشطه تارة إلى اليسار وتارة إلى اليمين وأخرى إلى الخلف ، ثم إذا ضج منه ، عاد سيرته الأولى ، يرسل لحيته الشقراء ويبقيها طويلة إلى أن يصدر إشعار آخر من إرادته فيجهز عليها ؛ لذلك لا تستطيع أن تُثبّت له صورة ذهنية فى مخيلتك تستدعى بها هيئته ، لاستعصائها على التقولب ، وانفلاتها من أسر التجميد ، اللهم باستثناء عينيه ، فهما أسرع ما يحضرك من شكله .

يسهر الجزار كثيرا ، وينام قليلا ، فهو من عشاق الليل وسُمار السكون ، يدخن كل أنواع السجائر بشراسه ، وقلما تقف له على صنف يفضله ، ويتعاطى القهوة بشره رغم ضآلة ما يتناوله من طعام . فقد تمضى العشر ساعات دون أن يتذوق طعما للزاد ، حتى إذا ما اقتات تراه يقنع من القوت بما يسد الرمق ويقيم الأود ، يتناوله بسرعة شديدة ، دون أدنى تكلف أو اهتمام أو استمتاع. يقوم الجزار كثيرا ، ويقعد كثيرا ، ويتحدث كثيرا ، ويصمت كثيرا ، ويضحك كثيرا ، ويبكى منفردا أو على كتف حبيب ، غير أنك تستطيع الجزم بأن ضحكاته تطبع وحزنه طبع ، والعلاقة جدلية بين عينيه والحزن ، فالحزن أضاف روعة إلى عمقهما ، وهما – بدورهما – قد جعلتا الحزن جميلا ، أو هكذا أنا أراه ، عندما يكون الجزار حزينا .

تلك كانت بعض سمات صاحبنا الظاهرية ، والتى لا تمثل خروجا عن نص الحياة ونمطية معايشتها ؛ بقدر ما تشى بتمرده على أن يحياها داجنا ، وذلك عنده هو أصل الحرية ، وبالتالى أصل الإنسان . وهذه السمات هى انعكاس لمخزون راديكالى فوار ، يجرى فى بنيته العقلية مجرى الدم فى عروق الجسد ، فهو الثائر دوما بغير زعيق ، النافر من الناس بغير اعتزال . كما أنه شديد الاستماتة فى الانتصار لقناعاته الشخصية ، حتى أنه لو شاء أن يقنع الكثيرين بالباطل لفعل ، ولكنه لا يفعل ؛ لأنه يترفع عن الانتصارات الفكرية المزيفة ، كما أن (الدوجما) من أكره طبائع البعض إلى نفسه ، فضلا عن صونه لنعمة البلاغة وقوة الحجة اللتين وهبهما الله له ، فلم يستغل نعماء الله عليه فى إغضابه .

يعلَم الجزار – ويُعلّمنا – الفرق فى الدنيا بين الوسائل والغايات ، ويعتبر أن حظوظ الناس من الذكاء والغباء ، مرتهنة بقدرتهم على إجراء هذا التمييز ، الذى يراه فصل المقال فيما بين الزبد وما ينفع الناس من انفصال ، فكثيرا ما يقف مشدوها أمام ما لا يراه الكثيرون يستأهل ، إما لضعف بصيرتهم ، وإما لنفعية نظرتهم ، أو لجماعهما ، فى حين يضرب عرض الحائط ببناءات فكرية توهمها من شيدوها أهراما ، وذلك ما كان يجعل أصحاب صروح الوهم يؤثرون غفلتهم وأنساقهم الكرتونية على أن يضع لها الجزار (قواعد المنهج) ولو كان الرجل فظا غليظ القلب ، لبسطنا لهم ساحة العذر على انفضاضهم من حوله ، غير أن ذوبان فائض علمه فى عظيم خُلقه ، يبدو أنه قد أوصد دونهم كل منافذ مماحكته ، فاستيسروا الإدبار عنه ، حقنا لدماء الفضح ، بعد تيقنهم من أن تجسير الفجوة بينهم وبينه قد أصبح فى عداد المحال . وبالفعل هيهات أن يصعد الصغار الجبل ... !

والجزار جبلان قلما يجتمعا فى واحد ، جبل الإنسان ، وجبل العلم . والحق أنه ليس بمكنتى – لأسباب فنية – الحديث عن جبل العلم فى الجزار ، فضلا عن أننى لم أكتب هذه السطور لذلك الغرض أصلا ، فهى مخصصة للحديث عن الجزار ذلك الإنسان ، أو إن شئنا الدقة ، الإنسان ذلك الجزار ... ! فقط أقول – وليس هنا بموضع المبالغة عندى – أنه من أراد الفلسفة ، أو الدين ، أو السياسة ، أو الفن ، أو التاريخ ، أو الاجتماع ، أو الاقتصاد ، أو علم النفس ، أو علم الإنسان ( الأنثروبولوجيا ) فعليه بالجزار ، ومن أرادها مجتمعة وممنهجة ، فعليه بالجزار . ولكم هو (غير غريب) أن يلجأ إليه المتخصصون فى شتى هذه المناحى المعرفية ، يلتمسون عنده الاستيضاح ، أو الاستزادة ، أو الاستيثاق ، أو المنهجة ، أو غير ذلك من طرائق الدراسة ومقتضيات البحث ، فيفيض عليهم من بحر علمه ، ويرويهم من سلسبيل معرفته ، غير مستعل عليهم ولا منان ، بل يبذل قصارى جهده ؛ لإظهار الأمر وكأنه مُدارسة بين نّدين ، أو مناقشة بين كفؤين ، وليس – كما هو واقع الأمر – تعلما من عالم ، أو تلمذة على يد أستاذ , وكم هو غير غريب أيضا أن اللغة العربية وآدابها هى تخصص الجزار العام ، وأن النقد الأدبى هو تخصصه الدقيق ، فإذا كان هذا هو شأن الجزار فيما ذكرت لكم من حقول معرفية ؛ فكيف به – بالله عليكم – فى تخصصه ؟! سأترك لقريحتكم أمر الإجابة ، بيد أنى أسارع بالقول – وبغير افتراء - أن من حج بيت النقد الأدبى دون الطواف بكعبة الجزار ، فليس حجه بمنقوص فحسب ، وإنما هو باطل .

وكان طبيعيا – بحكم تعدد المصادر الثقافية للجزار - أن تتنوع عنده الولاءات ، وتتسع فيه مدارات الهوية ، فهو مصرى حتى النخاع ، عاشق لتراب بلده ، ينتفخ بها زهوا وتيها ، يحيا فيها وراية قلبه مرفوعة فى القدس ، ترفرف على كل أرض فلسطين ، تستنهض نخوة كل العرب ، وتستجدى فيهم عظائم تاريخ العروبة . وهو ليبرالى ، يؤمن بكافة أنواع الحرية المنضبطة المشروطة بالمسئولية ، وبحق كل إنسان فى أن يتحرك داخل حيزه الخاص دون منازع ، ما لم يحد ذلك من حيز الآخرين ، أو حتى يهددهم بهذا التحديد . وهو يسارى فى كراهته الشديدة لمبدأ الطبقية ، واستعلاء جماعة على أخرى ، أو استئثار فئة معينة بموارد المجتمع القابلة للندرة (السلطة ، الثروة ، النفوذ ... الخ) . وهو سُنى المذهب يهتدى بمجمل السنة، قولا وفعلا وإقرارا . وهو شيعى الهوى ، فى تعلقه بكل أغصان الدوحة الوارفة الطاهرة من آل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وهو صوفى النزعة ، يرى الله بقلبه ، ويعبده بعشق ، ويهيم بأوليائه ، وله فى ذلك أحوال ومقامات ، مما يضيق المقام عن ذكرها ، فضلا عن أن صاحبنا لا يحب التخرص فيها . كل ذلك – وكثير غيره – يسكن فى داخل الجزار ، متناسقا ، متناغما ، متوازنا ، متآلفا ، يشد بعضه أزر بعض ، فلا يطغى مجال على آخر إلا بمعيار الصلاحية وعلى أساس الانسجام .

وكما ذكرت سابقا ، فالجزار جبلان : عالم ، وإنسان ، ولا يَبُز الجزار العالم عندى إلا الجزار الإنسان ، أو – كما سبق وذكرت أيضا – الإنسان ذلك الجزار . غير أنى أبادر فأقول ، إذا كنتُ قد اختزلتُ جانبه الأول فيما اختطه من نتف مبعثرة وركيكة ، سقتها فى جرأة وتجاسر أحسد نفسى عليهما ؛ فإن العىّ عند تناولى لشق الإنسانية فيه سيسفر عن نفسه بشكل أستحق عليه – هذه المرة – الشماتة . فلكم ستخزينى – مهما استرحمتها – الكلمات ، وستهجرنى – مهما استنجدت بها – المفردات . وآه من شعور بالألم ، لا يقدّر الإحساس بمرارته سوى من يقتاتون على الكتابة ، ألا وهو ضياع العبارة .

أعلم أن جهرى – بل حتى إسرارى لنفسى - بأنى صنيعة الجزار يغضبه منى ، دعك من أنه يُغضب آخرين ، لا أحفل بغضبهم إذا جاء من هذا المنحى ، غير أن عزائى فى ذلك ، هو أننى لا أغضب الجزار إلا فى هذا الشأن . فأنا كثيرا ما أرفع عقيرتى مختالا بين الناس ، متغنيا بأنشودة لا أفتأ أعيدها وأزيدها ، وهى أنى مدين بكينونتى للجزار ، معلنا على رؤوس الأشهاد أنه إذا كان بى من شر ، فمن نفسى ومن بعض عدم امتثالى لحكمته ، وهو ضميرى ، وإن كان بى من خير فمن ضمير الجزار بعد الله سبحانه وتعالى . نعم ... ! وأنا أعى ما أقول وأعنيه ، وسأظل أرغى وأزبد فيه ، فهو الذى تلقانى بحضن وصدر وقلب أم ، ووطّن علاقته بروحى على أساس من هذه الأمومة المذكرة . ورغم بضع السنوات التى يكبرنى بها (عمرا) فإنى لم أعامله يوما إلا كأب ، ولو كان للإنسان أن يتخذ لنفسه أما وأبا ؛ لاخترتهما مجتمعين فى شخص الجزار .

تلقانى ذلك الجزار بل تلقفنى منذ قرابة ربع القرن ، وأنا أعانى الكد والرجفة والتكسر، تصارعنى الهواجس ، وتتقاذفنى الهموم ، وتوشك دوامات اليأس أن تجرفنى ، لولا فضل الله ، ثم عثورى على هذا الكنز البشرى فى قفر ذلك الزمن ، فكان أوسع رحاب عثرت عليه فى أضيق أرض ، فأطلق سراح نفسى من أسرها ، وأخرجها من حظيرة التوحد إلى حديقة العالم ، ومن شرنقة المكان إلى كل براحات الإنسان . وما كان أحوج نفسى آنئذ إلى ضبط هذه البوصلة .

فى الجامعة ، كان الجزار هو أستاذى الأكاديمى بامتياز ، ورغم أن تخصصه العلمى كان فى النقد الأدبى الحديث ، وكنت أنا متخصصا فى مجال الفلسفة السياسية ، إلا أنه كان أكثر تبحرا فى تخصصى من كثير ممن يصنفون أنفسهم على هذا التخصص ؛ ولذلك كان الجزار بمثابة مشرف (عرفى) على كل دراساتى وبحوثى ، منذ مرحلة الماجستير ، وحتى إجرائى لبحوث الأستاذية . وأشهد الله ، وأشهدكم ، أنه لولا توجيهات الجزار الفكرية ، لما حصلت على أى من درجاتى العلمية ، بتلك الجدارة التى حصلت بها عليها .

وبمثل ما هوّن علىّ الجزار ضيق ذات العقل فى سنوات التشوش ، فكثيرا ما هوّن علىّ ضيق ذات اليد فى سنوات العسرة . والجزار شخص مصاب أساسا بمرض العطاء ، وهو مرض منتشر فى كل عائلته بشكل وبائى ، وقد انتقلت عدواه إلى صاحبنا بحكم الوراثة من الناحية البيولوجية ، وبحكم النشأة ووحدة الثقافة العائلية من الناحية الأيديولوجية . فإذا كان بذل المال هو زكاة الثروة ؛ فإن الجزار لا يتردد لحظة فى بذل أصل الثروة ذاته . وإذا كان ذلك مما يرفع من شرفه ، إلا أنه يورطه فى نوع آخر من البذل ، هو بذل الجاه ، كزكاة يراها شرعية لثروة الشرف. وهكذا ، يدور الجزار – ككل السلالة التى ينحدر من أرومتها – فى عجلة بذل دائم ، لا يرجو لها توقفا ، هى أحد أعراض مرض العطاء ، الذى لا يبتغى منه شفاء . ويبدو أنه قد قُدّر له أن يكون هو أباحنيفتنا ، وقنعنا نحن بدور أبى يوسف والشيبانى .

وأخيرا ، لقد استغلق تصنيف علاقتى بالجزار على أفهام كثير ممن يرصدون هذه العلاقة، فارتباطنا أرحب وأعمق وأعلى من أن يُكثف فى زمالة ، أو يختزل فى صداقة ، أو يصور كمصاحبة ، إلى غير ذلك من الأنواع الكلاسيكية لعلاقات الناس فى المجتمع . ثم أنه قد تمضى الشهور ، وربما السنوات ، لا يضمنا لقاء ، ولا تجرى بيننا حتى محادثة هاتفية ، وإذا ما لقيته بعد طول فراق ، فإنى ألقاه كمن كان معه منذ دقائق معدودات ، وربما لا أجلس معه أكثر من مثل هذه الدقائق ،   ذلك أنى لم أشعر بأنه أوحشنى ، وكيف أشعر بوحشة من يسكننى ؟؟!!ا