عينت معيدا فى كلية الآداب جامعة المنوفية 1987 ، وهو أول عام افتتحت فيه هذه الكلية بمدينة شبين الكوم ، وكنت قد تخرجت قبلها بعام من كلية الآداب جامعة الإسكندرية ، التى لم يشأ الله أن أعين بها ، لأسباب يطول شرحها ، وليس هنا مقامها . وكان حلم عمرى أن يتم تعيينى فى تلك الجامعة التى تخرجت منها . وأظن أن أحدا لا يخالفنى فى الإحساس برغبة أى متفوق قدّر له التعيين فى هذه الوظيفة ، أن يكون هذا التعيين فى نفس جامعته التى تخرج منها. فكم كانت رغبتى جامحة فى أن أكمل مسيرتى ، أو بالأحرى ، أبدأها فى جامعة الإسكندرية التى تخرجت منها لتوى ، وكم داعبنى – فى اليقظة والمنام – حلم أن أحاضر فى تلك القاعات التى كنت فيها طالبا إلى الأمس القريب ، وأن أكون زميلا " صغيرا " لتلك الكوكبة من الأساتذة الذين خلبوا فؤادى وأنا أختلف إلى دروسهم طيلة أربع سنوات .
وفضلا عن انبهارى بأساتذتى فى جامعة الإسكندرية ، وهو الانبهار الذى تطور إلى الافتتان ، بعدما انسحب إلى حللهم وهيئاتهم وحركاتهم وسكناتهم ؛ فقد كنت مأخوذا بمدينة الإسكندرية بشكل مَرضى ؛ فلم تكن بالنسبة لى مجرد مدينة ربطتنى بها كلية الآداب ذات التصميم الكاتدرائى فى حى الشاطبى العريق ، بمجمعه الأكاديمى المهيب ، والذى تتلألأ سماؤه بهذه الثلة من العلماء ؛ وإنما كانت الإسكندرية عندى براحا وجوديا خلابا . وقد استقبلتنى نازحا من ضجر القرية وسكون الحقل وسأم الوحدة وكل كهوف الحزن ، فأنخت فيها راحلتى الإنسانية قبل التعليمية ، ورفعت فيها رأسى ونفسى ، معانقا ذلك الفضاء الكوزموبوليتانى العريض ، فى تلك الواحة الفاتنة الساحرة الراقصة على أنغام البحر ، والمستنفرة لهمم الحب وطاقات الخيال ، لقد عاشت فىّ الإسكندرية (ندّاهة) وعشت فيها (مجذوبا) . وطبيعى جدا أن تعيش الإسكندرية وتبقى بدونى ؛ ولكن الذى لم أكن أتصوره أن أحيا أنا بدون الإسكندرية ، غير أن للأقدار شأنا آخر ، فقد أُكرهت على خروجى منها ، وقسرا حولت وجهتى إلى جامعة المنوفية وكلية آدابها الوليدة آنذاك .
سبحان الله ، أعرف أن التراتب الحياتى يكون من قرية ، ثم إلى نصف مدينة ، ثم إلى مدينة بالمواصفات الحضارية المتعارف عليها ، وبذا يكون التصاعد سلسا وخاضعا لمنطق الترقى، أما أن أبدأ حياتى – طفولتها وصباها – فى قرية تغط فى نوم عميق استمرأته فى حضن النيل ، ثم تتوسط هذه الحياةَ المرحلةُ الجامعية فى مدينة الإسكندرية بكل وهجها ، ثم يتوارى هذا الوهج فجأة عندما أُجبر على الانتقال إلى جامعة المنوفية بمدينة شبين الكوم، فإن هذا – لعمرى – فى المسير عجيب .
ومما زاد فى طينتى بلة ، حدوث انحدار آخر غير الذى كان من مدينة إلى شبه مدينة ، وهو ذلك الانحدار ، وربما الانحطاط من (مبنى) آداب الإسكندرية إلى (مبنى) آداب المنوفية فى ذلك الوقت ، الذى عندما كحلت عينى بمشاهدته أول مرة ، انتابتنى حالة من الذهول ، تبعتها حالة من الاشمئزاز العام ، تفاقمت إلى ما يشبه الإحباط ، ثم توقف الأمر قبل بلوغ الاكتئاب بمحطة واحدة . فقد كان ذلك المبنى أشبه بدوّار العمدة فى بلدتنا إبان سبعينيات القرن الماضى ، وقيل لنا أنه كان إحدى المدارس الإلزامية التى أنشئت على طرز معمارية عتيقة ، لذا لم تفلح معه أية محاولات للترميم أو التجديد ، واستعصى على كل حيلة تحديثية يمكن أن تهيئ له من أمره كلية .
ولست أدرى إلى الآن ، ماذا كان الدافع وراء سرعة افتتاح هذه الكلية بتلك الإمكانيات المخزية ،وذلك الوضع المهين للأساتذة والطلاب ؟! الواقع أنه لم تكن هناك حاجة ملحة إلى هذا الإنشاء المتسرع وغير المدروس . لقد بدأنا فى هذا (الدوار) بخمسة أو ستة أقسام علمية لا غير، يدرس فى كل قسم فيها ما لا يزيد كثيرا عن عدد طلاب فصل فى مدرسة ، إذن لم تكن هناك كثافة طلابية للإقليم تحتم هذه العجلة . وكان الطلاب يتلقون محاضراتهم فى قاعتين للدرس أو ثلاث ، شيدت فوق سطح هذا الشئ الذى يحاول عبثا أن يبدو ككلية للآداب ، وقد سقفت هذه القاعات بشبه ما تسقف به مواقف سيارات الأجرة . وأسفل هذا (الروف) يعج الطابق الثانى – على محدوديته – بمكتب عميد الكلية ، ومكتبين للوكيلين ، ومكتب للأمين العام ، ومكتب واحد لكل قسم علمى بأعضاء هيئة تدريسه وسكرتاريته ، ومكتبين اثنين لجميع أعضاء الهيئة المعاونة، وكنا معشر المعيدين آنذاك من سكان هذا التجمع . ثم عندما (ننحط) إلى الطابق الأرضى ، الذى هو أشبه بالبدروم منه إلى إدارة المرور ؛ نجده يشتمل على مكاتب كل الموظفين الإداريين وإدارة الحرس وبقية المرافق الخدمية للكلية ، ويواجه كل هذا فناء صغير (حوش) تتبعثر فيه – بشكل عشوائى – بضع سيارات متواضعة لعلية القوم من رواد هذا المكان ، أزعم أن ثمن إحداها فى ذلك الوقت يشترى اليوم هاتفا نقالا من الماركات المتوسطة .
وبالإضافة إلى تفرد كليتنا التى بدأنا العمل فيها بهذا النسق المعمارى الفذ : بدروم ، وطابق وحيد ، وروف ، فضلا عن الحوش بالطبع ؛ فقد حباها الله والراسخون فى العلم موقعا لا يقل فى تفرده عن تفرد سحنتها . فيبدو أن أحد أشاوس المسئولين قد توكل على نفسه ، ثم استخار الشيطان فى هذا الموقع العجيب ، فوسوس له بهذا المكان الذى ينأى عن كل المجمعات العلمية بالمدينة ، وعن كل الأماكن الحيوية فيها ، فأبرك هذا المسئول ناقته على مقربة من سجن المدينة العمومى على الأطراف الجنوبية للبلدة ، فكان قبر بكر بأرض قفر ، وأصبح الأمر حشفا وسوء كيلة ، بعد تصور هذا المسئول أنه جمع علينا بين أبهة التصميم وعبقرية المكان . تالله ، لو جاءت كل أمة بأراذل مسئوليها ، وجئنا نحن بمسئولنا هذا لرجحناهم .
لقد حالت قريحة هذا الملهَم دون بلوغنا كلية الآداب إلا بإحدى طريقتين لا ثالثة لهما غير الهلاك ترجلا ، فإما أن نستقل (الحناطير) وهى وسيلة – رغم فولكلوريتها – لم تكن متاحة إلا لذوى اليسار منا ... ! وإما أن نعبر ترعة المدينة التى يسمونها بحرا ؛ لأنها تشق المدينة إلى برّين، شرقى وغربى ، تتوسطهما هذه القناة ، وكانت كليتنا (شرق القناة) غير أن (العبور) إلى الشرق كان يتم على ظهر أحد المراكب البدائية القديمة التى لم يخلق مثلها فى البلاد (معدية) وفى رواية (صندل) ولا أنسى يوما انزلق فيه من بيننا أحد الأساتذة المكفوفين من فوق سقالة هذه البارجة ، فسارعنا بالتقاطه من وحل هذه الترعة ، وأبدينا له أسفنا واعتذارنا ، ولم نأل جهدا فى مواساته ومحاولة إرضائه ، خاصة وأن الرجل أولا يحمل درجة الأستاذية ، وثانيا كفيف ، وثالثا هو منتدب من جامعة طنطا للتدريس فى كليتنا (أى ضيفنا) ولذلك استفرغنا كل طاقاتنا لاسترضائه ، غير أن كل ذلك لم يثن عزمه عن قرار اتخذه لتوه ، لقد أقسم – بعد أن نظفناه مباشرة – أن يوم موقعة المعدية هذا ، لهو آخر أيام انتدابه عندنا ، ولم يحنث .
اشتدت وطأة هذه الحادثة الميلودرامية على نفسى ، وألقت بظلالها الرمادية عليها ، وأرمزت تداعياتها إلى القهر بغرائب تجلياته ، وازداد تنازعى بين ماض الإسكندرية وحاضر شبين الكوم ، بين بحر الدنيا يعزف سيمفونية المحار فى الأولى ، وبين الموت كمدا فى ترعة الثانية ، بين ركاب ترام وقطارات وتاكسيات الأولى ، وبين ركاب الحناطير والصنادل بمن كان يجاورنا فيها من بائعى الطماطم فى الثانية ، بين الصباح والمساء فى المكانين ، بين كل مظاهر الحياة وزخم الدنيا فى (قصة مدينتين) وكنت فى كل ذلك كمن يقارن فى نفسه بين عرس ومأتم .
لم يكن أمامى من سبيل آنذاك سوى أن أكفر بالمكان ، أقصد (فلسفة المكان) فأطوع الجغرافيا للتاريخ ، والتاريخ عندى هو الإنسان ، غير أن ذلك يستلزم عنفوانا وجوديا يساعد على تشكيل اللوحة الجديدة المزمع رسمها ، اللوحة التى يطغى فيها الإنسان على المكان ، ويصبح فيها المكان محيطا باهتا لا يكاد يبين ، إلا إذا استحضره العقل مصاحبا تكميليا لجوهر اللوحة (الإنسان) هنالك ينفرط عقد المكان وتنحل عقدته ، ليشيد العقل على أنقاض وثنيته معمارا سويا ، لا أظنه إلا أيقونة الإنسان .
والواقع أن فكرة مركزية الإنسان وفوقيته على المكان ، ليست من اكتشافاتى العلمية ، ولا من اجتهاداتى الفقهية ، وإنما هى حقيقة مسلّم بصوابيتها ، بل ببديهيتها ، منذ أن خلق الله الأرض وإلى أن يرثها . كل ما هنالك أن طاقة هذه الحقيقة كانت معطلة أو خاملة بشكل مؤقت فى نفسى، وذلك إبان الفترة التى تسلل إلىَّ الشيطان فيها من ثغرة الفلسفة الباطلة للمكان ، فكم أغرانى حينها بأن أرمى بحبلى على غارب النكوص ، عساه يفلح فى أن يحملنى على صهوة الفشل . غير أن جذوة (الإنسان) قد اتقدت بداخلى من جديد ، وساهم أناس (إنسانيون) فى اكتشافها ، وعملوا جاهدين على إعادة إنتاجها . وكان (ولا يزال وسوف يظل) على رأس هؤلاء ، من خصصت هذه السطور لأحدثكم قليلا عنه .
لقد دعوت الله متضرعا فى هذه المرحلة الانتقالية الحرجة من حياتى أن يُنعم علىَّ بمنقذ من الضلال ، عساه يهدينى ، ويتسع صدره فيحتوينى ، ويربت بنفسه على نفسى فتستقر ، ويدفع بعجلة حياتى إلى الأمام فتستمر ، وينتشلنى من ضيقى إلى رحابته ، ومن تقزمى إلى علو هامته ، ومن صغائر ما يهزمنى إلى عظائم ما يعيننى على النصر . وكان فضل الله علىَّ عظيما ، فلم يحدث أن عاجلنى الله بالإجابة ، بمثل ما عجل بعثورى على هذا الإنسان الذى انشقت الأرض عنه فى وقت كادت أن تميد بى ، وكأنى بهذا الإنسان يقول : دع عنك المكان، أنا هنا ، فأقبل . وجدتنى أهرول إليه على غير عادتى فى التقرب من الناس ، وكأن محيطه الإنسانى جاذب ، لا ، إنه (ندّاهة) إنسانية .
عانقت روحى روحه ، فأقفلت عليه ذاتى راضيا مرضيا ، لا أريد منه فكاكا ولا أبغى عنه حولا ، ولّيتُ وجهى شطره ، وأصبح قمر النجوم فى مجموعتى الإنسانية ، ودون إخلال بحق النجوم فى حياتى ، ولا إغماط لأقدارهم عندى ؛ فإن القدح المعلى يبقى عندى للقمر دون النجوم . لقد تلبسنى هذا الإنسان بشكل جنى ، واحتكر – بشرعية العلاقة – سلطة ممارسة الضبط على نفسى ، من توجيه وحث وأمر ونهى وترغيب وترهيب ، دون أدنى تنافر أو تعارض بين ذاتى المتلقية وذاته المرسلة ، ووجدتنى أستحضره – غائبا كحاضر – فى كل ما يعن لى من تفضيلات ، صغيرها وكبيرها ، يسيرها وعظيمها ، فأقيس الأمور بمقياسه ، وأزنها بميزانه ، وأفصل غثها عن سمينها بغرباله . وبالجملة ، أعرض على كينونته كل رؤاى ، فإن أجازها وإلا تراجعت بكامل قناعتى ، ولم لا ، بل وكيف لا ، وهو مقياس إنسانى اعتمدته لنفسى رمانة الميزان . ذلكم هو / محمد فكرى عبدالرحمن الجزار ، الذى عرفته آنذاك معيدا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة المنوفية ، والذى أصبح منذ ذلك الحين ولمدة ما يقرب من ربع قرن قبلتى الإنسانية الأبدية .
كانت كليتنا القديمة – كما سبق وذكرت – محدودة للغاية من ناحية الشكل ، ومن ناحية من تنتظمهم من أعداد الأساتذة والطلاب ، ورغم مساوئ ذلك ، فقد كانت الميزة الوحيدة لهذه المحدودية ، أنها ساهمت بشكل كبير فى سرعة تعارفنا وتقاربنا ، وهو ما افتقدناه بعد انتقالنا إلى المقر الجديد الضخم (لا الفخم) لكلية الآداب ، بعد ست سنوات عجاف قضيناها فى المبنى القديم. ولذلك فإن وشائج العلاقة بين الأساتذة كانت تنقسم إلى نوعين : علاقات الرعيل الأول ، وهى أقدم العلاقات بين من بدأت بهم الكلية فى مكانها وعصرها القديمين ، ثم علاقات ما بعد الهجرة ، أى تلك التى تكونت فى المقر الجديد للكلية ، ولا تزال هذه التفرقة شبه قائمة حتى الآن.
فى الكلية القديمة التى ابتدأنا بها وابتدأت بنا ، التقيت أناسا ذوى تخصصات دراسية شتى، يحملون درجات علمية مختلفة ، وبالتالى فى مراحل عمرية متباينة، جاء معظمهم إلى آداب المنوفية الوليدة آنذاك من جامعات مصرية متعددة ، من القاهرة ، وعين شمس ، والإسكندرية ، وطنطا ، وكليات مدن القناة وغيرها ، فضلا عن أناس من أصحاب الأرض ، أى الذين هم من المنوفية أصلا
وتعليما ، فكانوا بمثابة (الأنصار) الذين هاجرنا نحن إليهم ؛ غير أن (المهاجرين) كانوا آنذاك على أية حال أكثر منهم عددا وعتادا .
كان الجزار بين كل هؤلاء طرازا فريدا من البشر ؛ وأول أمارات تفرده – وإن لم تكن أهمها – أنه كان خريج جامعة بيروت العربية ، وأشك كثيرا فى أن تكون هذه الجامعة قد خرّجت معيدا نابغة قبله ولا بعده ، وتلك قصة يعرفها كل الذين يعرفونه ، ويتندرون بها لغرابة مقدماتها عن نتيجتها ، ومفارقة مبتداها لمنتهاها . كما أن الجزار قد زاده الله بسطة فى العلم دون الجسم ، فجسده نحيل بغير هزال ، والحق أنه لو كانت الأجساد تجرى على الثقافة ؛ لكان الجزار كبرج القاهرة ، أو منارة الإسكندرية . ويبدو أن نحالة جسده قد ساعدته على أن يكون فى نشاطه كالنحلة ، فهو يمشى بخطى سريعة وثابتة فى آن ، ويتحاور ويتجادل مع المجموعة الكبيرة وفى موضوعات مختلفة بصوت جهورى أخاذ ، كما أنه من أتباع المدرسة المشائية فى محاضراته وربما فى مكتبه ، وهو لا يرتبط بالمواعيد الروتينية لليوم الدراسى الجامعى ، فتراه يحاضر إلى وقت المغرب ، وقد يكمل بعض المناقشات فى مكتبه ، وترى مريديه يتحلقونه كشيخ عامود فى أحد أروقة الأزهر ، ويتغشون مجالسه بانتظام ، فيهش لهم ، ويناقشهم ، ويمازحهم ، وينتقدهم ، وربما يشتد على أحدهم ، فيعنفه بغير إساءة ، ويضاحك آخر بغير تهتك ، وهو فى كل هذا يقف على مسافة واحدة من كل الناس ، لا فضل عنده لمسئول كبير على عامل بسيط إلا بمعياره الوحيد ، وهو المعيار الإنسانى .
لا يأبه الجزار لكثير مما نأبه له ، ولا يعير اهتماما لكثير مما ننشغل به ، أو نحتاط له أو نتحرز من مزالقه ، فهو يحيا الدنيا كما يريد هو أن يحياها ، لا كما يراد له العيش فيها ، يراعى قداسة التقاليد المعقولة ، والمعقولة فقط ، أما نواميس الزيف والتبعية ، فلا يحل بدارها ، ولا يقف حتى على أعتابها . فهو شديد الاعتداد بذاته ، ويراها معياره لكل الأشياء ، يفعل ما يريد ، وقتما يريد ، وبأى شكل يريد ، حتى ولو خرج ذلك نسبيا عن نطاق المألوف ، فتراه يرتدى فى الصيف ما يراه الآخرون أليق بفصل الشتاء ، والعكس صحيح ، يتأنق بشدة فى غير مناسبة ، وقد يرتاد محافل كبرى بأبسط الثياب ، يطيل شعر رأسه جدا ثم يقصره تماما ، وإذا استطال من جديد تراه يمشطه تارة إلى اليسار وتارة إلى اليمين وأخرى إلى الخلف ، ثم إذا ضج منه ، عاد سيرته الأولى ، يرسل لحيته الشقراء ويبقيها طويلة إلى أن يصدر إشعار آخر من إرادته فيجهز عليها ؛ لذلك لا تستطيع أن تُثبّت له صورة ذهنية فى مخيلتك تستدعى بها هيئته ، لاستعصائها على التقولب ، وانفلاتها من أسر التجميد ، اللهم باستثناء عينيه ، فهما أسرع ما يحضرك من شكله .
يسهر الجزار كثيرا ، وينام قليلا ، فهو من عشاق الليل وسُمار السكون ، يدخن كل أنواع السجائر بشراسه ، وقلما تقف له على صنف يفضله ، ويتعاطى القهوة بشره رغم ضآلة ما يتناوله من طعام . فقد تمضى العشر ساعات دون أن يتذوق طعما للزاد ، حتى إذا ما اقتات تراه يقنع من القوت بما يسد الرمق ويقيم الأود ، يتناوله بسرعة شديدة ، دون أدنى تكلف أو اهتمام أو استمتاع. يقوم الجزار كثيرا ، ويقعد كثيرا ، ويتحدث كثيرا ، ويصمت كثيرا ، ويضحك كثيرا ، ويبكى منفردا أو على كتف حبيب ، غير أنك تستطيع الجزم بأن ضحكاته تطبع وحزنه طبع ، والعلاقة جدلية بين عينيه والحزن ، فالحزن أضاف روعة إلى عمقهما ، وهما – بدورهما – قد جعلتا الحزن جميلا ، أو هكذا أنا أراه ، عندما يكون الجزار حزينا .
تلك كانت بعض سمات صاحبنا الظاهرية ، والتى لا تمثل خروجا عن نص الحياة ونمطية معايشتها ؛ بقدر ما تشى بتمرده على أن يحياها داجنا ، وذلك عنده هو أصل الحرية ، وبالتالى أصل الإنسان . وهذه السمات هى انعكاس لمخزون راديكالى فوار ، يجرى فى بنيته العقلية مجرى الدم فى عروق الجسد ، فهو الثائر دوما بغير زعيق ، النافر من الناس بغير اعتزال . كما أنه شديد الاستماتة فى الانتصار لقناعاته الشخصية ، حتى أنه لو شاء أن يقنع الكثيرين بالباطل لفعل ، ولكنه لا يفعل ؛ لأنه يترفع عن الانتصارات الفكرية المزيفة ، كما أن (الدوجما) من أكره طبائع البعض إلى نفسه ، فضلا عن صونه لنعمة البلاغة وقوة الحجة اللتين وهبهما الله له ، فلم يستغل نعماء الله عليه فى إغضابه .
يعلَم الجزار – ويُعلّمنا – الفرق فى الدنيا بين الوسائل والغايات ، ويعتبر أن حظوظ الناس من الذكاء والغباء ، مرتهنة بقدرتهم على إجراء هذا التمييز ، الذى يراه فصل المقال فيما بين الزبد وما ينفع الناس من انفصال ، فكثيرا ما يقف مشدوها أمام ما لا يراه الكثيرون يستأهل ، إما لضعف بصيرتهم ، وإما لنفعية نظرتهم ، أو لجماعهما ، فى حين يضرب عرض الحائط ببناءات فكرية توهمها من شيدوها أهراما ، وذلك ما كان يجعل أصحاب صروح الوهم يؤثرون غفلتهم وأنساقهم الكرتونية على أن يضع لها الجزار (قواعد المنهج) ولو كان الرجل فظا غليظ القلب ، لبسطنا لهم ساحة العذر على انفضاضهم من حوله ، غير أن ذوبان فائض علمه فى عظيم خُلقه ، يبدو أنه قد أوصد دونهم كل منافذ مماحكته ، فاستيسروا الإدبار عنه ، حقنا لدماء الفضح ، بعد تيقنهم من أن تجسير الفجوة بينهم وبينه قد أصبح فى عداد المحال . وبالفعل هيهات أن يصعد الصغار الجبل ... !
والجزار جبلان قلما يجتمعا فى واحد ، جبل الإنسان ، وجبل العلم . والحق أنه ليس بمكنتى – لأسباب فنية – الحديث عن جبل العلم فى الجزار ، فضلا عن أننى لم أكتب هذه السطور لذلك الغرض أصلا ، فهى مخصصة للحديث عن الجزار ذلك الإنسان ، أو إن شئنا الدقة ، الإنسان ذلك الجزار ... ! فقط أقول – وليس هنا بموضع المبالغة عندى – أنه من أراد الفلسفة ، أو الدين ، أو السياسة ، أو الفن ، أو التاريخ ، أو الاجتماع ، أو الاقتصاد ، أو علم النفس ، أو علم الإنسان ( الأنثروبولوجيا ) فعليه بالجزار ، ومن أرادها مجتمعة وممنهجة ، فعليه بالجزار . ولكم هو (غير غريب) أن يلجأ إليه المتخصصون فى شتى هذه المناحى المعرفية ، يلتمسون عنده الاستيضاح ، أو الاستزادة ، أو الاستيثاق ، أو المنهجة ، أو غير ذلك من طرائق الدراسة ومقتضيات البحث ، فيفيض عليهم من بحر علمه ، ويرويهم من سلسبيل معرفته ، غير مستعل عليهم ولا منان ، بل يبذل قصارى جهده ؛ لإظهار الأمر وكأنه مُدارسة بين نّدين ، أو مناقشة بين كفؤين ، وليس – كما هو واقع الأمر – تعلما من عالم ، أو تلمذة على يد أستاذ , وكم هو غير غريب أيضا أن اللغة العربية وآدابها هى تخصص الجزار العام ، وأن النقد الأدبى هو تخصصه الدقيق ، فإذا كان هذا هو شأن الجزار فيما ذكرت لكم من حقول معرفية ؛ فكيف به – بالله عليكم – فى تخصصه ؟! سأترك لقريحتكم أمر الإجابة ، بيد أنى أسارع بالقول – وبغير افتراء - أن من حج بيت النقد الأدبى دون الطواف بكعبة الجزار ، فليس حجه بمنقوص فحسب ، وإنما هو باطل .
وكان طبيعيا – بحكم تعدد المصادر الثقافية للجزار - أن تتنوع عنده الولاءات ، وتتسع فيه مدارات الهوية ، فهو مصرى حتى النخاع ، عاشق لتراب بلده ، ينتفخ بها زهوا وتيها ، يحيا فيها وراية قلبه مرفوعة فى القدس ، ترفرف على كل أرض فلسطين ، تستنهض نخوة كل العرب ، وتستجدى فيهم عظائم تاريخ العروبة . وهو ليبرالى ، يؤمن بكافة أنواع الحرية المنضبطة المشروطة بالمسئولية ، وبحق كل إنسان فى أن يتحرك داخل حيزه الخاص دون منازع ، ما لم يحد ذلك من حيز الآخرين ، أو حتى يهددهم بهذا التحديد . وهو يسارى فى كراهته الشديدة لمبدأ الطبقية ، واستعلاء جماعة على أخرى ، أو استئثار فئة معينة بموارد المجتمع القابلة للندرة (السلطة ، الثروة ، النفوذ ... الخ) . وهو سُنى المذهب يهتدى بمجمل السنة، قولا وفعلا وإقرارا . وهو شيعى الهوى ، فى تعلقه بكل أغصان الدوحة الوارفة الطاهرة من آل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وهو صوفى النزعة ، يرى الله بقلبه ، ويعبده بعشق ، ويهيم بأوليائه ، وله فى ذلك أحوال ومقامات ، مما يضيق المقام عن ذكرها ، فضلا عن أن صاحبنا لا يحب التخرص فيها . كل ذلك – وكثير غيره – يسكن فى داخل الجزار ، متناسقا ، متناغما ، متوازنا ، متآلفا ، يشد بعضه أزر بعض ، فلا يطغى مجال على آخر إلا بمعيار الصلاحية وعلى أساس الانسجام .
وكما ذكرت سابقا ، فالجزار جبلان : عالم ، وإنسان ، ولا يَبُز الجزار العالم عندى إلا الجزار الإنسان ، أو – كما سبق وذكرت أيضا – الإنسان ذلك الجزار . غير أنى أبادر فأقول ، إذا كنتُ قد اختزلتُ جانبه الأول فيما اختطه من نتف مبعثرة وركيكة ، سقتها فى جرأة وتجاسر أحسد نفسى عليهما ؛ فإن العىّ عند تناولى لشق الإنسانية فيه سيسفر عن نفسه بشكل أستحق عليه – هذه المرة – الشماتة . فلكم ستخزينى – مهما استرحمتها – الكلمات ، وستهجرنى – مهما استنجدت بها – المفردات . وآه من شعور بالألم ، لا يقدّر الإحساس بمرارته سوى من يقتاتون على الكتابة ، ألا وهو ضياع العبارة .
أعلم أن جهرى – بل حتى إسرارى لنفسى - بأنى صنيعة الجزار يغضبه منى ، دعك من أنه يُغضب آخرين ، لا أحفل بغضبهم إذا جاء من هذا المنحى ، غير أن عزائى فى ذلك ، هو أننى لا أغضب الجزار إلا فى هذا الشأن . فأنا كثيرا ما أرفع عقيرتى مختالا بين الناس ، متغنيا بأنشودة لا أفتأ أعيدها وأزيدها ، وهى أنى مدين بكينونتى للجزار ، معلنا على رؤوس الأشهاد أنه إذا كان بى من شر ، فمن نفسى ومن بعض عدم امتثالى لحكمته ، وهو ضميرى ، وإن كان بى من خير فمن ضمير الجزار بعد الله سبحانه وتعالى . نعم ... ! وأنا أعى ما أقول وأعنيه ، وسأظل أرغى وأزبد فيه ، فهو الذى تلقانى بحضن وصدر وقلب أم ، ووطّن علاقته بروحى على أساس من هذه الأمومة المذكرة . ورغم بضع السنوات التى يكبرنى بها (عمرا) فإنى لم أعامله يوما إلا كأب ، ولو كان للإنسان أن يتخذ لنفسه أما وأبا ؛ لاخترتهما مجتمعين فى شخص الجزار .
تلقانى ذلك الجزار بل تلقفنى منذ قرابة ربع القرن ، وأنا أعانى الكد والرجفة والتكسر، تصارعنى الهواجس ، وتتقاذفنى الهموم ، وتوشك دوامات اليأس أن تجرفنى ، لولا فضل الله ، ثم عثورى على هذا الكنز البشرى فى قفر ذلك الزمن ، فكان أوسع رحاب عثرت عليه فى أضيق أرض ، فأطلق سراح نفسى من أسرها ، وأخرجها من حظيرة التوحد إلى حديقة العالم ، ومن شرنقة المكان إلى كل براحات الإنسان . وما كان أحوج نفسى آنئذ إلى ضبط هذه البوصلة .
فى الجامعة ، كان الجزار هو أستاذى الأكاديمى بامتياز ، ورغم أن تخصصه العلمى كان فى النقد الأدبى الحديث ، وكنت أنا متخصصا فى مجال الفلسفة السياسية ، إلا أنه كان أكثر تبحرا فى تخصصى من كثير ممن يصنفون أنفسهم على هذا التخصص ؛ ولذلك كان الجزار بمثابة مشرف (عرفى) على كل دراساتى وبحوثى ، منذ مرحلة الماجستير ، وحتى إجرائى لبحوث الأستاذية . وأشهد الله ، وأشهدكم ، أنه لولا توجيهات الجزار الفكرية ، لما حصلت على أى من درجاتى العلمية ، بتلك الجدارة التى حصلت بها عليها .
وبمثل ما هوّن علىّ الجزار ضيق ذات العقل فى سنوات التشوش ، فكثيرا ما هوّن علىّ ضيق ذات اليد فى سنوات العسرة . والجزار شخص مصاب أساسا بمرض العطاء ، وهو مرض منتشر فى كل عائلته بشكل وبائى ، وقد انتقلت عدواه إلى صاحبنا بحكم الوراثة من الناحية البيولوجية ، وبحكم النشأة ووحدة الثقافة العائلية من الناحية الأيديولوجية . فإذا كان بذل المال هو زكاة الثروة ؛ فإن الجزار لا يتردد لحظة فى بذل أصل الثروة ذاته . وإذا كان ذلك مما يرفع من شرفه ، إلا أنه يورطه فى نوع آخر من البذل ، هو بذل الجاه ، كزكاة يراها شرعية لثروة الشرف. وهكذا ، يدور الجزار – ككل السلالة التى ينحدر من أرومتها – فى عجلة بذل دائم ، لا يرجو لها توقفا ، هى أحد أعراض مرض العطاء ، الذى لا يبتغى منه شفاء . ويبدو أنه قد قُدّر له أن يكون هو أباحنيفتنا ، وقنعنا نحن بدور أبى يوسف والشيبانى .
وأخيرا ، لقد استغلق تصنيف علاقتى بالجزار على أفهام كثير ممن يرصدون هذه العلاقة، فارتباطنا أرحب وأعمق وأعلى من أن يُكثف فى زمالة ، أو يختزل فى صداقة ، أو يصور كمصاحبة ، إلى غير ذلك من الأنواع الكلاسيكية لعلاقات الناس فى المجتمع . ثم أنه قد تمضى الشهور ، وربما السنوات ، لا يضمنا لقاء ، ولا تجرى بيننا حتى محادثة هاتفية ، وإذا ما لقيته بعد طول فراق ، فإنى ألقاه كمن كان معه منذ دقائق معدودات ، وربما لا أجلس معه أكثر من مثل هذه الدقائق ، ذلك أنى لم أشعر بأنه أوحشنى ، وكيف أشعر بوحشة من يسكننى ؟؟!!ا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق