لا يسع الباحث فى عموم الفكر الأمريكى إلا أن يلمس ذلك الترابط الحيوى بين ما قد يراه البعض مفارقا يستعصى على المحايثة، وبين الواقع المعاش المتماس مع التجربة اليومية بكل واقعيتها، ربما لإيمان المفكرين الأمريكيين-بحكم تركيبتهم العقلية البراجماتية- أن الفكرة فى صورتها المجردة لا تستطيع أنتنشر عدواها وهى تحلق فوق عقول الناس، متعالية على استدراكهم لكنهها، ومعاندة لتمثلهم المجتمعى، ومن ثم فإن فائدة الفكرة (أية فكرة) إنما ترتهن فى- تصورهم- باستنزالهامن سماء التجريد إلى ضمائر العامة، حيث تنتج الفكرة ثمارها المغذية أو السامة،وبذا يمكن توقيع المثل العليا على الأرض، وتطويع مطلقاتها الجامدة لنسبية المرونة الحياتية ولوازم متغيراتها، فما الأحداث فى أصلها إلا أفكار عاملة، وما موضوع الحرية بالأساس إلا أحد هذه الأفكار. وإذا كانت موضوعات السياسة - دونا عن غيرها منكل حقول المعرفة الاجتماعية الأخرى- تدرس واقعا إنسانيا شائكا، يتسم فى الحياة بطابع الخشونة؛ فأزعم أن موضوع (الحرية) دونا عن غيره من كل قضاياها، من أنعم أجناسها البحثية، ولكنه من أكثرها استثارة لعقلانية النظر؛ وذلك لاشتمال المصطلح على عرق فلسفى دفين يجعله مسكونا بالتجريد، ويبديه ملتبسا بشىء من الذاتية وغلبة أحكام القيمة، وهو ما يقتضى الدارس لقضية الحرية جهدا عقليا دؤوبا وزادا منهجيا وفيرا، يمكناه من رسم أطر واضحة لمرامات المفهوم وغاياته، وكذا حدوده المتاخمة لضوابط (المسئولية) كالتزام أخلاقى تفرضه مرجعية سماوية، أو قسرى تشرعنه السلطة العامة فى المجتمع، إذبغير ذلك لا يستقيم فهمنا للحرية، ونكون كمن قام بهدم الجدار العازل بينها وبين الفوضى.
فلا شك أن الحرية من أكثر الموضوعات التى حظيت باهتمام الفلاسفة والمفكرين على مر العصور، ابتداء من فجر الوعى الانسانى وحتى وقتنا الراهن؛ وذلك لارتباطها الوثيق بحياة الإنسان وقيمته كمخلوق بشرى أولا، ثم بحقه فى العيش الكريم كمواطن موفور الإرادة بعد ذلك، وهو ما أدى إلى تعدد الآراء وتشعبهاحول قضية الحرية، من منطلق تمايز الظروف التاريخية والمكانية، وتباين الدوافع واختلاف زوايا الرؤية.غير أنه يمكن القول أنه لم يكن للحرية أن تتحدد ويتبلور مفهومها إلا فى العصر الحديث؛ نتيجة للدور الذى لعبته الأفكار السياسية والمذاهب الاجتماعية فى شيوع المفهوم المعاصر لها، فإذا كانت فكرة انعدام القسر أو انتفاء الإجبار هى أحد المداخل الكلاسيكية لتعريف الحرية تعريفا سلبيا؛ يجعلها بذلك مرادفا لمفهوم (التحرر) كقيمة سلبية تعنى مجرد إزالة العوائق، كى يستطيع الفرد التصرف دون اعنراض الآخرين؛ فإن الحرية بمعناها الذى تم توسعته حديثا قد زادها بعدا مكملا لجوهرها، تمثل فى اعتبارها قدرة إيجابية تعنى حق انطلاق الطاقات الإنسانية تحت مراقبة السلطة الاجتماعية إلى آفاق معيشية أرحب، فتتحول بعد التحرر من الجهل والمرض وعدم الأمان، إلى حرية فى المعرفة والصحة والضمان الاجتماعى، أى تنتقل من (حرية من) إلى (حرية فى) وهذا النوع الإيجابى من الحرية هو الذى يميز الليبرالية الحديثة عن الليبرالية الكلاسيكية التى أرسى دعائمها (جون لوك) 1632-1704 ومدرسة الطبيعيين الأوائل، ونشأت كرد فعل اجتماعى لتحسين صورة ليبرالية القرن السابع عشر، التى غالبا ما اتهمت بالنفعية والفردية ونزعة الأنانية، فجاءت غالبية ليبراليات ما بعد القرن السابع عشر متداركة لأخطاء ما سبقتها من تصورات ليبرالية عفا عليها التاريخ وتجاوزها سير الحراك الاجتماعى.
وكان (جون استيوارت ميل) 1806-1873 من أوائل الذين توجهوا هذه الوجهة، عندما رأى أن فلسفة الليبراليين الأوائل قد أهملت الطبيعة التنظيمية للمجتمع والنمو التاريخى للمؤسسات، ورأى أن وظيفة الدولة لا يجب أن تكون سلبية ولا محايدة أمام اندفاعات الفردية الاقتصادية، وعلى خلاف (بنتام) 1748-1832 رأى ميل أن المنفعة أعقد بكثير من أن تكون نوعا من المتعة أو البهجة، وأن الحرية ليست مجرد وسيلة لتحقيق المنفعة الشخصية فحسب. وعلى نفس النهج الاجتماعى للحرية الذى سار عليه ميل، استمر تيار ليبرالى من المنادين بالحرية الايجابية، منهم (توماس هيلجرين) 1836-1882 من مثاليى أكسفورد، الذى أدرك أن الليبرالية المبكرة لم تفهم بالقدر الكاف طبيعة البشر الاجتماعية، وأن نظرية لوك عن الحقوق الطبيعية للأفراد لم تنتبه إلى تطور الفرد مقترنا بالمجتمع، كذلك نعى جرين على الليبرالية القديمة اقتران الحرية فيها بالجانب الاقتصادى وحده، دون اعتبار لبقية جوانب الحرية فى نطاقها الأشمل، وكان أول من أدخل فكرة (الصالح العام) إلى الليبرالية الحديثة، عندما رأى أن الجماعة ذات القيم الأخلاقية هى التى يحدد فيها الفرد تطلعاته إلى الحرية على ضوء المصالح الاجتماعية العامة. وهكذا قدمت الليبرالية الجديدة نفسها بوصفها فلسفة اجتماعية، تؤيد ادعاءات الفرد فى الحرية، ولكن داخل محيط الجماعة، وبما لايتعارض مع مصالحها.
ولم يكن للفكر السياسى الأمريكى أن يشذ عن التوجهات الأوربية فى فهم الحرية بمعناها الاجتماعى المحدث، فلطالما عاش الأمريكيون عيالا على مستحدثات القارة الأم، ولم يكن نشاطهم الفكرى إلا مجرد انعكاس للتأثيرات الأوربية، سواء القديمة منها أو الحديثة، وكانت الفلسفة كما لاحظ (توكفيل) 1805-1859 تبدو لهم على درجة من الغموض وبصورة بعيدة للغاية عن اهتمامات دولة ناشئة تسعى إلى استجلاب ضرورات القوة فى المقام الأول، مقترنة بالحرية كمفهوم مركزى يتلهف عليه الهاربون من قمع الإقطاع إلى الأرض الجديدة، لذلك لم يستطع الأمريكيون بناء نسق معرفى أمريكى خالص إلا بعد فترة غير قصيرة من استقلال كيانهم السياسى عن تبعيته لأوربا بعد حرب الاستقلال (1775-1783) غير أن (البراجماتية) كانت هى السمة المميزة لتوجهات الفلسفة السياسية الأمريكية (الخالصة) والتى مثلت منذ منتصف القرن التاسع عشر انتعاشا فكريا أمريكيا جاء منقلبا على كثير من التقاليد الأكاديمية الأوربية الموروثة، فأصبحت البراجماتية أول مذهب فكرى يمكن نسبته إلى الأرض الجديدة، والثقافة المعبرة عن الفكر السياسى الأمريكى، وأحد أهم الأسس التى بنى عليها صرح هذه الامبراطورية، واعتبرها المفكرون الأمريكيون البرنامج المعتمد لتحقيق استراتيجيتهم، والترجمة السلوكية لبلوغ مصالحهم القومية العليا كما أقربذلك (كيسنجر) فى كتابه (الديبلوماسية) الذى نشره 1994.
أقول إن الفكر الأمريكى رغم صبغته البراجماتية الواضحة لم يأت منبت الصلة بالجذور الأوربية؛ لكون البراجماتية إحدى مناحى الليبرالية التى تعبر بشكل حداثى عن واقع المجتمع الأمريكى وتعكس صورته، لا على المستوى الداخلى فحسب، وإنما على صعيد السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. فقد انتهت هذه الفلسفة إلى أن المصلحة هى معيار صدق الفكرة، وأساس تحققها بشكل براجماتى يصرف العقل عن التجريد والاستغراق فى ميتافيزيقا المثال، واللجوء إلى الحلول اللفظية لمشكلات الواقع، غير أن ذلك لا يعنى أن نفع الفكرة مرتهن بفوائدها المادية فقط؛ بل أن الأفكار اللاهوتية إذا أثبتت أنها ذات قيمة فى الحياة؛ فإنها نافعة من وجهة النظر البراجماتية، حتى وإن كان نفعا دينيا أو روحيا، ومن ثم فلم تغب المناحى النفسية التى تصب فى مصلحة (الإنسان) عن مباحث الفلسفة البراجماتية، لإيمانها بأن العقل يحقق هدفه المنشود عندما يقود صاحبه إلى الوجودالناجح؛ وتحقيق ذلك النجاح هو المقياس الحقيقى لصحة الفكرة أو زيفها.
وكان (تشارلز بيرس) 1839-1914 هو أول من أدخل مصطلح البراجماتية إلى الفلسفة، فى البحث الذى قدمه إلى (النادى الميتافيزيقى) وتم نشره بعد ذلك فى مقالين، الأول هو (تثبيت الاعتقاد) 1877 والثانى هو (كيف نوضح أفكارنا) 1878 وهما المقالان المعرفيان اللذان أعلنا عن ظهور حركة فلسفية جديدة هى (البراجماتية) ولم يكن اختيار بيرس للمصطلح عفويا؛ فقد انتخبه من الأصل اليونانى (براجما) الذى يعنى العمل، ومن لفظة (براكتيس) التى تشير إلى الممارسة والفعل، وأناط بالبراجماتية مهمة الإجابة عن معنى الفكرة والكشف عن معيار صدقها، ورأى بهذه الإبسمولوجيا الجديدة (البراجماتية) أن الفكرة هى ما تعمله هذه الفكرة، أى مايترتب عليها من نتائج وما تفضى إليه من آثار. أما الضلع الثانى للبراجماتية فكان (وليم جيمس) 1842-1910 الذى جاء من الطب والفسيولوجيا والتشريح إلى مضمار علم النفس، واستقر فى مرابض الفلسفة، وأسس مذهبه البراجماتى على أصول أفكار بيرس ذات الإطار المنطقى والرياضى، ولكن براجماتية جيمس اتخذت نهجا سيكولوجيا، وإن كان قد اتفق مع بيرس فى أن عملية الفكرة ونفعها هى مقياس صحتها ودليل صدقها، وعموما فقد كان جيمس وبيرس يمثلان فى النادى الميتافيزيقى موجة فلسفية جديدة، تحمل إعلانا تجريبيا حسيا، فى مقابل الاتجاه المثالى الذى كان يمثله أغلب أعضاء النادى فى نهايات القرن التاسع عشر، ثم كان (جون ديوى) هو ثالث أضلاع مثلث البراجماتية الأمريكية خلال النصف الأول من القرن العشرين. ولما كان (ديوى) هو أحد الشخصيتين الأمريكيتين التى تدور حول آرائهما فى الحرية معظم هذه الدراسة؛ فإن المنهجية تقتضينا تاريخيا أن نرجىء الحديث عنه لما بعد إلقاء الضوء على شخصيتها الأولى (توماس بين).
وفى ظنى أنه ليس أقرب إلى الصواب عند بداية الحديث عن (توماس بين) من القول بأن هذا المفكر هو أحد أعلام الحرية فى عصر التنوير، سواء على مستوى العالم الجديد (أمريكا) أو على مستوى القارة العجوز (أوربا) فقد ولد فى إنجلترا 1737 وعاش شبابه فيها، ثم رحل إلى أمريكا وقضى فيها أخصب سنوات عمره، ثم عاد إلى أوربا وقضى بها نحو عامين متنقلا فيهما بين لندن وباريس، ثم عاد أدراجه إلى أمريكا التى توفى ودفن فيها 1809 عن عمر يناهز اثنتين وسبعين عاما، قضى غالبيتها مدافعا عن مبدأ الحرية فى كل كتبه ومقالاته، وكان أولها كتابه عن (الذوق العام) ويا له من عنوان عبقرى لكتاب عميق، كان بمثابة بذرة صالحة زرعت فى أرض خصبة، فجوهر الكتاب الذى نشر فى أمريكا 1776 قد دار حول حق مستعمرات إنجلترا فى أمريكا الشمالية أن تستقل عن التبعية الانجليزية واستبدادها، وخلال ثلاثة أشهر طبعمن هذا الكتاب حوالى 120 ألف نسخة، فى مجتمع كان عدد سكانه آنذاك حوالى أربعة ملايين نسمة، وخلال عام واحد بلغ عدد المطبوع منه حوالى نصف مليون نسخة فى أوربا، بما جعله أكثر الكتب مبيعا باللغة الإنجليزية فى القرن الثامن عشر، وقد قرأ الكتاب كل التحريرين الأمريكيين، وعلى رأسهم الجنرال جورج واشنطون، قائد القوات الأمريكية فى مواجهة المستعمرين الإنجليز، واعتبر التحريريون هذا الكتاب إنجيل الثورة الأمريكية، وأحد دعائم استقلالها، وأبرز مرتكزات دستورها الجديد، وبمثل ما كان (مكيافيللى) 1469-1527 هو أول من أطلق اسم (دولة) على الكيان السياسى ذى السيادة؛ فإن توماس بين هو الذى اقترح تسمية تلك الدولة الناشئة غرب الأطلسى باسم (الولاياتالمتحدة الأمريكية).
واستطرادا لإيمان توماس بين بقضية (حقوق الإنسان) وهى القضية التى أفرد لها واحدا من أهم كتبه وعنونه بنفس الاسم، رادا فيه على كتاب المفكر الانجليزي إدموند بيرك (تأملات فى الثورة الفرنسية) الذى رآه توماس بين مكرسا للاستبداد والطغيان، ولمس فيه خشية بيرك من تكرار تجربة الثورة الفرنسية فى إنجلترا، فقد قام (بين) خلال إقامته بفرنسا بعد ثورتها بوضع كتابه (حقوق الإنسان) رافضا فيه أن يحيا الإنسان حياة الفراخ أو الخنازير (على حد وصفه) ورأى أن من حقه أن يعيش حر الإرادة موفور الكرامة، ولذلك هاجم فى هذا الكتاب كل الملكيات المستبدة، ودعا إلى حق الأفراد فى الثورة عليها، بل طالب بأن تتحول الملكية فى إنجلترا إلى جمهورية دستورية، تقوم على أساس الرقابة التشريعية والتداول السلمى للسلطة. وحين استقر نجاح الثورة الفرنسية منحته فرنسا جنسيتها الفخرية، وانتخب عضوا فى برلمانها رغم عدم إجادته للفرنسية. وقد علا شأنه فى المجتمع الفرنسى آنذاك، حتى أن نابليون قد قال له: إنك بهذا العقل الذهبى تستحق تمثالا ذهبيا فى كل مدينة من مدن العالم، فقبل (بين) مجاملة نابليون؛ لكنه لم يقبل نزعته نحو الاستبداد، فهاجمه فى كتاباته، وقاد حملة مضادة لسياساته فى كل أرجاء فرنسا، إلى أن تم إسقاط الاستبداد الفرنسى، ولم لا وقد هاجم الولايات المتحدة لانتشار العبودية فيها، بل هاجم جورج واشنطون نفسه لأنه كان يمتلك عبيدا؟ لا شك أن الإجابة هى إيمان (بين) بعمومية المبدأ وعدم قابليته للتجزئة أو إعمال وجهات النظر، فما بك إذا كانت الحرية هى أعلى المبادىء.
وبمثل ما رفض (بين) الاستبداد باسم السياسة؛ فإنه أنكره أيضا باسم الدين، فوضع كتابه الموسوم (عصر العقل) والذى جعل كل مداراته حول حقيقة واحدة فحواها أن (عقلى هو كنيستى) فهاجم فى هذا الكتاب مؤسسة الكنيسة ورجال الدين، بل كل من سولت لهم أنفسهم التحدث نيابة عن الخالق من أصحاب الديانات الأخرى، وقد نبع هجومه الكاسح على رجال الدين من منبعين: أولهما رفضه البات لسيطرة رجالالكنيسة على شئون الدين، والثانى هو رؤيته أن رجل الدين (أى دين) الساكت عن الاستبداد السياسى كأنه شريك فيه، فجاء كتابه (عصر العقل) مناديا بضرورة الإصلاح الدينى، بحيث تمتنع سيطرة رجال الكنيسة على الدين، ويرفض الدين الذى يتحالف مع الاستبداد أو يسوغه بأى غطاء سماوى. واعتبر (بين) أن العلم هو المحرر للعقل البشرى من سلطان العابثين باسم الدين، وأن الفلسفة هى المحررة للإرادة الإنسانية من استبداد الدولة, وكان يعتبر نفسه فى هذا تلميذا للسير ( إسحاق نيوتن) 1642-1727 أما أنا فأشبه موقفه هنا بموقف (كانط) 1724-1804عندما شرع فى تأسيس فلسفة نقدية تقف ضد (الدوجماطيقية) تمثلت فى أعماله الثلاثة: نقد العقل الخالص، ونقد العقل العملى، ونقد الحكم، والذى توجها قبيل وفاته بتحرير آخر أعماله (الدين فى حدود العقل وحده) ذلك الكتاب الذى تدور فكرته المحورية حول تنقية الدين من كل شوائب الدوجماطيقية، استنادا إلى مبدأ (كانط) الذى يختزل فيه كل فلسفة التنوير فى عبارة واحدة هى (كن جريئا فى إعمال عقلك) وذلك مما يدعم حقيقة أن عصر الاستنارة كان بمثابة البيئة الحاضنة لنمو بذور الحرية، والمناخ المواتى لذيوع فلسفتها.
أما (جون ديوى) 1859-1952والذى اعتبر ثالث أضلاع المثلث البراجماتى الأمريكى بعد بيرس وجيمس، كما سبقت الاشارة؛ فهو ذلك الفيلسوف والمربى وعالم النفس والسياسة، الذى ربط التربية بالديمقراطية ربطا سائغا، ارتأى فيه توقف كل منهما على الأخرى كسبب ونتيجة، ومادا به لجسور الاتصال بين الأخلاق والسياسة، كما ربط فى كتابه (الفردية قديما وحديثا) بين القيم الفردية والمثل الجماعية بشكل تكاملى، استطاع من خلاله تقدير المدى الذى يسمح به لوجود النزعة الفردية بصورة مقبولة داخل النظم الاجتماعية، بعد تبينه أن الإسراف فى الطابع الفردى يؤدى إلى الفوضى، وأن المبالغة فى تغليب قيم الحضارة الجماعية يجهز على الامتياز الشخصى، فانفلت من أسر تلك الاتجاهات الفكرية التى تورطت فى اتخاذ مواقف متطرفة ضد الفرد أوالجماعة، ضد السلطة أو الحرية، وأسّس ببراجماتيته الخاصة (الأداتية) أو (الوسائلية) أو (الذرائعية) لمنهج تطورى يستند إلى الخبرة والتجربة والممارسة، ويخاصم الكامل والمطلق والتأملى فى المعرفة الانسانية، ويرضخه للنسبية على أوسع نطاق.
وفضلا عن تأثر ديوى بأفكار بيرس وجيمس، وخصوصا الأخير الذى تشبع بدراساته فى علم النفس، كان ديوى قد اطلع على كثير من مثاليات هيجل (1770-1831 ) وقبل كثيرا من عناصر فلسفته، ولكنه لفظ تجريداتها بعد تعرفه على نظرية التطور والارتقاء الطبيعى التى ضمنها تشارلز داروين (1809-1882) كتابه (أصل الأنواع) فانطلق ديوى فى كل أعماله متأثرا بنظرية داروين عن (بقاء الأصلح) التى بنى على أساسها نوعا من الداروينية الاجتماعية، محاولا تحديد الاطار العام لفلسفة واضحة وضوح العلم، ومرتكزا على أحد المفاهيم المحورية فى فكره وهو مفهوم (التجربة) فمعامل الوحدة في فكر جون ديوي هو التجربة، وهو يمنح هذه الفكرة القديمة محتوى جديدا أكثر اتساعا من استعماله العادى، فالتجربة عنده هى التى تجمع وترتب وتنسق تفاعلاتنا مع محيطنا فيزيقيا كان أو بيولوجيا أو عائليا أو اجتماعيا أو سياسيا، ويرى أن البراجماتية هي قبل كل شيء فكر صيرورة داخل العلم، فكل شيء بصدد التكون والتشكل؛ لذلك لايمكننا القول بأن هناك حقيقة دائمة لا تتغير أبدا، ومعنى هذا أن أفكارنا ومعاييرنا الأخلاقية والجمالية والسياسية ليست معطيات أبدية، والإيجاب الذي يتميز به هذا المسعى هو أنه يسمح لنا بالتقاطع نهائيا مع الأفكار المغلقة، فبدلا من تجميد الإنسان والطبيعة والعلم والمجتمع في دوائر مغلقة ومنعزلة عن بعضها البعض، تقترح الفلسفة البراجماتية تربيط هذه العلاقات، بحسب ما تقتضيه عوامل الحركة والتطور.
وعلى هذا الأساس جاءت كل أعمال ديوى تنبض بالحركة الاجتماعبة والحرارة الانسانية، وتناقش قضايا الإنسان البسيط الذى يصارع الطبيعة كى يستطيع العيش بكرامة وحرية، فلقد نزل بمفهوم الحرية من سماء التجريد إلى أرض الواقع والخبرة المعاشة، ورفض فى كتابه (الحرية والثقافة) وجهة النظر التى ترى أن الحرية صفة متأصلة فى الإنسان، بحيث أنها تتحقق بمجرد انعتاقه من أسر السلطة، ورآها مفهوما أرحب وأكثر فعالية من استاتيكية تعريفها الكلاسيكى السلبى، الذى غلب على مجمل التراث الليبرالى حتى منتصف القرن التاسع عشر، وهو نفس ما ذهب إليه فى كتابه (الطبيعة البشرية والسلوك) الذى اعتبر فيه أن الحرية حالة حاكمة لوجود الانسان داخل الجماعة، شريطة اتساقها مع البيئة المحيطة، وهو الاتساق لا يمكن الحصول عليه بمنأى عن التفكير العلمى؛ لأن جوهر الحرية يعتمد على ظروف العمل المستندة إلى أسس اجتماعية.
وإذا كان البعض يرى أن شهرة ديوى (التربوية) كواحد من أشهر علماء التربية فى النصف الأول من القرن العشرين، قد فاقت شهرته كفيلسوف وعالم نفس؛ فإنه يمكن القول أن هذا المفكر بمخزونه الداروينى والنهضوى والليبرالى، وبربطه بين العلم والديمقراطية والمجتمع فى نسق حيوى مترابط، كان أحد أساطين الفكر الأمريكي المؤسسين لمدرسة الحرية على النهج البراجماتى، ذلك النهج التى تسعى البراجماتية من خلاله أن تقدم مفهوم الحرية مصحوبا بفكرة النفع من ناحية، وصنوا لصالح الفرد والجماعة فى آن واحد من ناحية أخرى، وبذلك تصنع تأليفا بين المطلق والنسبى عن أحلام الحرية، أو بين الممكن والمستحيل من حدودها، بدلا من الانكفاء على عقيدة الحكم بالاستحالة.
وإجمال ما سبق، تجده مفصلا فى ذلك الكتاب الذى بين أيدينا، والذى يسعدنى تقديمه للقارىء العربى، كباكورة إنتاج لتلميذى الأستاذ/محمد كامل عجلان، الباحث بقسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة المنوفية، والذى كان فى الأصل موضوع أطروحته لنيل درجة الماجستير، تحت عنوان (الحرية فى الفكر السياسى الأمريكى بين توماس بين وجون ديوى،دراسة مقارنة) وهى الرسالة التى شاركت فى الإشراف عليها مع أستاذتى الفاضلة الدكتورة/ نازلى معوض أحمد، أستاذ العلاقات الدولية، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بجامعة القاهرة، وقد حصل الباحث على درجته العلميةبامتياز، ورأى - ورأيت معه - نشرها بأصلها الجامعى الذى نوقشت وأجيزت على أساسه (وتلك كانت نصيحة لجنة المناقشة) دون أدنى تغيير فى متونها أو هوامشها أو مراجعها أو نتائجها، اللهم إلا بعض اختصار فى العنوان، رأى صاحب الدراسة أنه لا يفارق جوهر العمل ولا يخالف محتواه، وذلك ليتلقاها القارىء بتلك الرصانة الأكاديمية التى قدتفيد الدارسين والباحثين على السواء.
والحق أن الباحث قد نحى فى هذه الدراسة نحوا دراسيا متعمقا، اتسم بالأصالة واستقلال الرأى، والقدرة على الانتصار لقناعاته العلمية بشكل لافت، فنظر بعين التدقيق (ولا أقول الريبة) إلى ما قد يبدو من الجبريات الاجتماعية الراسخة، وانطلق بعد أن قام بتمحيصها إلى إثبات صحة فرضياته، من قاعدة رفضه المبدئى للمسلمات ومقولات الحتم، ولا شك أن ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى هوسه الشديد بحقل تخصصه فى مجال الفلسفة السياسية، وإلمامه العريض بتاريخ مذاهبها وشخصياتها، ودرايته الواعية بمناهج بحثها، فضلا عن أن ما يحوزه الباحث من عتاد لغوى قد جعله ضالعا فى صك مفرداته الخاصة، وابتكار منتجات لفظية جاء تدشينها فى هذا العمل بمثابة قيمة مضافة إلى السياق المدروس، وذلك ما ألبس الدراسة فى مجملها ثوبا ألقا، جعل النقد فيها لم يأت منافيا لروح الحيادية أو مجافيا لقيم التجرد، فبدت فى كل خلائطها براعة الباحث فى التحليل والتركيب، ومقدرته على إجراء المقارنة وبلوغ الاستخلاص بمنهجية سليمة. وعلى الرغم من كون الدراسة تجمع بين دفتيها آراء قد تبدو متغايرة؛ إلا أنها سرعان ما تلتئم فى نسق معرفى متكامل ومتماسك بنائيا، أضفى على تتابع وحداتها البحثية نوعا من الصيرورة والاضطراد، فلم تنفلت فكرة (الحرية) من تدفقات النص، ولم تفقد مركزيتها -كمفهوم أساس- رغم كل مراوغات (البراجماتية) لها، كتصور أمريكى خاص لمفهوم (الليبرالية).
وفى النهاية، فإن هذا عمل إنسانى، لابد وأن ينتابه النقص؛ لأن الكمال المطلق لقول الله وحده، وصدق العماد الأصفهانى حين قال (إنى رأيت أنه لا يكتب أحد كتابا فى يومه إلا قال فى غده، لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر) وحسب الباحث أنه اجتهد، ولعله بهذه البداية الطيبة قد أصاب، ٍوإن كانت الأخرى؛ فيكفيه شرف المحاولة، وفضل تعبيد الطريق أمام الباحثين، لمن يريد زيادة الإثمار فى حقل الفلسفة السياسية الخصب، داعيا الله - سبحانه- أن يجعل من هذا العمل لبنة تساهم فى إعلاء صرح المكتبة العربية، وأن يكون أول القطر من غيث هذا الباحث الواعد، الذى أتمنى له التوفيق والسداد، فيما ننتظره من استكمال لمشروعه الفكرى التى بدت – بهذا العمل- ملامحه.
دكتور/ أمين حافظ السعدنى
أستاذ الفلسفة السياسية المساعد
بكلية الآداب جامعة المنوفية