الجمعة، 30 مايو 2014

تصدير د. أمين السعدني لكتاب "الحرية فى الفكر الأمريكي، براجماتية مفهوم" لـ محمد كامل عجلان

لا يسع الباحث فى عموم الفكر الأمريكى إلا أن يلمس ذلك الترابط الحيوى بين ما قد يراه البعض مفارقا يستعصى على المحايثة، وبين الواقع المعاش المتماس مع التجربة اليومية بكل واقعيتها، ربما لإيمان المفكرين الأمريكيين-بحكم تركيبتهم العقلية البراجماتية- أن الفكرة فى صورتها المجردة لا تستطيع أنتنشر عدواها وهى تحلق فوق عقول الناس، متعالية على استدراكهم لكنهها، ومعاندة لتمثلهم المجتمعى، ومن ثم فإن فائدة الفكرة (أية فكرة) إنما ترتهن فى- تصورهم- باستنزالهامن سماء التجريد إلى ضمائر العامة، حيث تنتج الفكرة ثمارها المغذية أو السامة،وبذا يمكن توقيع المثل العليا على الأرض، وتطويع مطلقاتها الجامدة لنسبية المرونة الحياتية ولوازم متغيراتها، فما الأحداث فى أصلها إلا أفكار عاملة، وما موضوع الحرية بالأساس إلا أحد هذه الأفكار. وإذا كانت موضوعات السياسة - دونا عن غيرها منكل حقول المعرفة الاجتماعية الأخرى- تدرس واقعا إنسانيا شائكا، يتسم فى الحياة بطابع الخشونة؛ فأزعم أن موضوع (الحرية) دونا عن غيره من كل قضاياها، من أنعم أجناسها البحثية، ولكنه من أكثرها استثارة لعقلانية النظر؛ وذلك لاشتمال المصطلح على عرق فلسفى دفين يجعله مسكونا بالتجريد، ويبديه ملتبسا بشىء من الذاتية وغلبة أحكام القيمة، وهو ما يقتضى الدارس لقضية الحرية جهدا عقليا دؤوبا وزادا منهجيا وفيرا، يمكناه من رسم أطر واضحة لمرامات المفهوم وغاياته، وكذا حدوده المتاخمة لضوابط (المسئولية) كالتزام أخلاقى تفرضه مرجعية سماوية، أو قسرى تشرعنه السلطة العامة فى المجتمع، إذبغير ذلك لا يستقيم فهمنا للحرية، ونكون كمن قام بهدم الجدار العازل بينها وبين الفوضى.

فلا شك أن الحرية من أكثر الموضوعات التى حظيت باهتمام الفلاسفة والمفكرين على مر العصور، ابتداء من فجر الوعى الانسانى وحتى وقتنا الراهن؛ وذلك لارتباطها الوثيق بحياة الإنسان وقيمته كمخلوق بشرى أولا، ثم بحقه فى العيش الكريم كمواطن موفور الإرادة بعد ذلك، وهو ما أدى إلى تعدد الآراء وتشعبهاحول قضية الحرية، من منطلق تمايز الظروف التاريخية والمكانية، وتباين الدوافع واختلاف زوايا الرؤية.غير أنه يمكن القول أنه لم يكن للحرية أن تتحدد ويتبلور مفهومها إلا فى العصر الحديث؛ نتيجة للدور الذى لعبته الأفكار السياسية والمذاهب الاجتماعية فى شيوع المفهوم المعاصر لها، فإذا كانت فكرة انعدام القسر أو انتفاء الإجبار هى أحد المداخل الكلاسيكية لتعريف الحرية تعريفا سلبيا؛ يجعلها بذلك مرادفا لمفهوم (التحرر) كقيمة سلبية تعنى مجرد إزالة العوائق، كى يستطيع الفرد التصرف دون اعنراض الآخرين؛ فإن الحرية بمعناها الذى تم توسعته حديثا قد زادها بعدا مكملا لجوهرها، تمثل فى اعتبارها قدرة إيجابية تعنى حق انطلاق الطاقات الإنسانية تحت مراقبة السلطة الاجتماعية إلى آفاق معيشية أرحب، فتتحول بعد التحرر من الجهل والمرض وعدم الأمان، إلى حرية فى المعرفة والصحة والضمان الاجتماعى، أى تنتقل من (حرية من) إلى (حرية فى) وهذا النوع الإيجابى من الحرية هو الذى يميز الليبرالية الحديثة عن الليبرالية الكلاسيكية التى أرسى دعائمها (جون لوك) 1632-1704 ومدرسة الطبيعيين الأوائل، ونشأت كرد فعل اجتماعى لتحسين صورة ليبرالية القرن السابع عشر، التى غالبا ما اتهمت بالنفعية والفردية ونزعة الأنانية، فجاءت غالبية ليبراليات ما بعد القرن السابع عشر متداركة لأخطاء ما سبقتها من تصورات ليبرالية عفا عليها التاريخ وتجاوزها سير الحراك الاجتماعى.

وكان (جون استيوارت ميل) 1806-1873 من أوائل الذين توجهوا هذه الوجهة، عندما رأى أن فلسفة الليبراليين الأوائل قد أهملت الطبيعة التنظيمية للمجتمع والنمو التاريخى للمؤسسات، ورأى أن وظيفة الدولة لا يجب أن تكون سلبية ولا محايدة أمام اندفاعات الفردية الاقتصادية، وعلى خلاف (بنتام) 1748-1832 رأى ميل أن المنفعة أعقد بكثير من أن تكون نوعا من المتعة أو البهجة، وأن الحرية ليست مجرد وسيلة لتحقيق المنفعة الشخصية فحسب. وعلى نفس النهج الاجتماعى للحرية الذى سار عليه ميل، استمر تيار ليبرالى من المنادين بالحرية الايجابية، منهم (توماس هيلجرين) 1836-1882 من مثاليى أكسفورد، الذى أدرك أن الليبرالية المبكرة لم تفهم بالقدر الكاف طبيعة البشر الاجتماعية، وأن نظرية لوك عن الحقوق الطبيعية للأفراد لم تنتبه إلى تطور الفرد مقترنا بالمجتمع، كذلك نعى جرين على الليبرالية القديمة اقتران الحرية فيها بالجانب الاقتصادى وحده، دون اعتبار لبقية جوانب الحرية فى نطاقها الأشمل، وكان أول من أدخل فكرة (الصالح العام) إلى الليبرالية الحديثة، عندما رأى أن الجماعة ذات القيم الأخلاقية هى التى يحدد فيها الفرد تطلعاته إلى الحرية على ضوء المصالح الاجتماعية العامة. وهكذا قدمت الليبرالية الجديدة نفسها بوصفها فلسفة اجتماعية، تؤيد ادعاءات الفرد فى الحرية، ولكن داخل محيط الجماعة، وبما لايتعارض مع مصالحها.

ولم يكن للفكر السياسى الأمريكى أن يشذ عن التوجهات الأوربية فى فهم الحرية بمعناها الاجتماعى المحدث، فلطالما عاش الأمريكيون عيالا على مستحدثات القارة الأم، ولم يكن نشاطهم الفكرى إلا مجرد انعكاس للتأثيرات الأوربية، سواء القديمة منها أو الحديثة، وكانت الفلسفة كما لاحظ (توكفيل) 1805-1859 تبدو لهم على درجة من الغموض وبصورة بعيدة للغاية عن اهتمامات دولة ناشئة تسعى إلى استجلاب ضرورات القوة فى المقام الأول، مقترنة بالحرية كمفهوم مركزى يتلهف عليه الهاربون من قمع الإقطاع إلى الأرض الجديدة، لذلك لم يستطع الأمريكيون بناء نسق معرفى أمريكى خالص إلا بعد فترة غير قصيرة من استقلال كيانهم السياسى عن تبعيته لأوربا بعد حرب الاستقلال (1775-1783) غير أن (البراجماتية) كانت هى السمة المميزة لتوجهات الفلسفة السياسية الأمريكية (الخالصة) والتى مثلت منذ منتصف القرن التاسع عشر انتعاشا فكريا أمريكيا جاء منقلبا على كثير من التقاليد الأكاديمية الأوربية الموروثة، فأصبحت البراجماتية أول مذهب فكرى يمكن نسبته إلى الأرض الجديدة، والثقافة المعبرة عن الفكر السياسى الأمريكى، وأحد أهم الأسس التى بنى عليها صرح هذه الامبراطورية، واعتبرها المفكرون الأمريكيون البرنامج المعتمد لتحقيق استراتيجيتهم، والترجمة السلوكية لبلوغ مصالحهم القومية العليا كما أقربذلك (كيسنجر) فى كتابه (الديبلوماسية) الذى نشره 1994.

 أقول إن الفكر الأمريكى رغم صبغته البراجماتية الواضحة لم يأت منبت الصلة بالجذور الأوربية؛ لكون البراجماتية إحدى مناحى الليبرالية التى تعبر بشكل حداثى عن واقع المجتمع الأمريكى وتعكس صورته، لا على المستوى الداخلى فحسب، وإنما على صعيد السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. فقد انتهت هذه الفلسفة إلى أن المصلحة هى معيار صدق الفكرة، وأساس تحققها بشكل براجماتى يصرف العقل عن التجريد والاستغراق فى ميتافيزيقا المثال، واللجوء إلى الحلول اللفظية لمشكلات الواقع، غير أن ذلك لا يعنى أن نفع الفكرة مرتهن بفوائدها المادية فقط؛ بل أن الأفكار اللاهوتية إذا أثبتت أنها ذات قيمة فى الحياة؛ فإنها نافعة من وجهة النظر البراجماتية، حتى وإن كان نفعا دينيا أو روحيا، ومن ثم فلم تغب المناحى النفسية التى تصب فى مصلحة (الإنسان) عن مباحث الفلسفة البراجماتية، لإيمانها بأن العقل يحقق هدفه المنشود عندما يقود صاحبه إلى الوجودالناجح؛ وتحقيق ذلك النجاح هو المقياس الحقيقى لصحة الفكرة أو زيفها.

وكان (تشارلز بيرس) 1839-1914 هو أول من أدخل مصطلح البراجماتية إلى الفلسفة، فى البحث الذى قدمه إلى (النادى الميتافيزيقى) وتم نشره بعد ذلك فى مقالين، الأول هو (تثبيت الاعتقاد) 1877 والثانى هو (كيف نوضح أفكارنا) 1878 وهما المقالان المعرفيان اللذان أعلنا عن ظهور حركة فلسفية جديدة هى (البراجماتية) ولم يكن اختيار بيرس للمصطلح عفويا؛ فقد انتخبه من الأصل اليونانى (براجما) الذى يعنى العمل، ومن لفظة (براكتيس) التى تشير إلى الممارسة والفعل، وأناط بالبراجماتية مهمة الإجابة عن معنى الفكرة والكشف عن معيار صدقها، ورأى بهذه الإبسمولوجيا الجديدة (البراجماتية) أن الفكرة هى ما تعمله هذه الفكرة، أى مايترتب عليها من نتائج وما تفضى إليه من آثار. أما الضلع الثانى للبراجماتية فكان (وليم جيمس) 1842-1910  الذى جاء من الطب والفسيولوجيا والتشريح إلى مضمار علم النفس، واستقر فى مرابض الفلسفة، وأسس مذهبه البراجماتى على أصول أفكار بيرس ذات الإطار المنطقى والرياضى، ولكن براجماتية جيمس اتخذت نهجا سيكولوجيا، وإن كان قد اتفق مع بيرس فى أن عملية الفكرة ونفعها هى مقياس صحتها ودليل صدقها، وعموما فقد كان جيمس وبيرس يمثلان فى النادى الميتافيزيقى موجة فلسفية جديدة، تحمل إعلانا تجريبيا حسيا، فى مقابل الاتجاه المثالى الذى كان يمثله أغلب أعضاء النادى فى نهايات القرن التاسع عشر، ثم كان (جون ديوى) هو ثالث أضلاع مثلث البراجماتية الأمريكية خلال النصف الأول من القرن العشرين. ولما كان (ديوى) هو أحد الشخصيتين الأمريكيتين التى تدور حول آرائهما فى الحرية معظم هذه الدراسة؛ فإن المنهجية تقتضينا تاريخيا أن نرجىء الحديث عنه لما بعد إلقاء الضوء على شخصيتها الأولى (توماس بين).        

وفى ظنى أنه ليس أقرب إلى الصواب عند بداية الحديث عن (توماس بين) من القول بأن هذا المفكر هو أحد أعلام الحرية فى عصر التنوير، سواء على مستوى العالم الجديد (أمريكا) أو على مستوى القارة العجوز (أوربا) فقد ولد فى إنجلترا 1737 وعاش شبابه فيها، ثم رحل إلى أمريكا وقضى فيها أخصب سنوات عمره، ثم عاد إلى أوربا وقضى بها نحو عامين متنقلا فيهما بين لندن وباريس، ثم عاد أدراجه إلى أمريكا التى توفى ودفن فيها 1809 عن عمر يناهز اثنتين وسبعين عاما، قضى غالبيتها مدافعا عن مبدأ الحرية فى كل كتبه ومقالاته، وكان أولها كتابه عن (الذوق العام) ويا له من عنوان عبقرى لكتاب عميق، كان بمثابة بذرة صالحة زرعت فى أرض خصبة، فجوهر الكتاب الذى نشر فى أمريكا 1776 قد دار حول حق مستعمرات إنجلترا فى أمريكا الشمالية أن تستقل عن التبعية الانجليزية واستبدادها، وخلال ثلاثة أشهر طبعمن هذا الكتاب حوالى 120 ألف نسخة، فى مجتمع كان عدد سكانه آنذاك حوالى أربعة ملايين نسمة، وخلال عام واحد بلغ عدد المطبوع منه حوالى نصف مليون نسخة فى أوربا، بما جعله أكثر الكتب مبيعا باللغة الإنجليزية فى القرن الثامن عشر، وقد قرأ الكتاب كل التحريرين الأمريكيين، وعلى رأسهم الجنرال جورج واشنطون، قائد القوات الأمريكية فى مواجهة المستعمرين الإنجليز، واعتبر التحريريون هذا الكتاب إنجيل الثورة الأمريكية، وأحد دعائم استقلالها، وأبرز مرتكزات دستورها الجديد، وبمثل ما كان (مكيافيللى) 1469-1527 هو أول من أطلق اسم (دولة) على الكيان السياسى ذى السيادة؛ فإن توماس بين هو الذى اقترح تسمية تلك الدولة الناشئة غرب الأطلسى باسم (الولاياتالمتحدة الأمريكية).

واستطرادا لإيمان توماس بين بقضية (حقوق الإنسان) وهى القضية التى أفرد لها واحدا من أهم كتبه وعنونه بنفس الاسم، رادا فيه على كتاب المفكر الانجليزي إدموند بيرك (تأملات فى الثورة الفرنسية) الذى رآه توماس بين مكرسا للاستبداد والطغيان، ولمس فيه خشية بيرك من تكرار تجربة الثورة الفرنسية فى إنجلترا، فقد قام (بين) خلال إقامته بفرنسا بعد ثورتها بوضع كتابه (حقوق الإنسان) رافضا فيه أن يحيا الإنسان حياة الفراخ أو الخنازير (على حد وصفه) ورأى أن من حقه أن يعيش حر الإرادة موفور الكرامة، ولذلك هاجم فى هذا الكتاب كل الملكيات المستبدة، ودعا إلى حق الأفراد فى الثورة عليها، بل طالب بأن تتحول الملكية فى إنجلترا إلى جمهورية دستورية، تقوم على أساس الرقابة التشريعية والتداول السلمى للسلطة. وحين استقر نجاح الثورة الفرنسية منحته فرنسا جنسيتها الفخرية، وانتخب عضوا فى برلمانها رغم عدم إجادته للفرنسية. وقد علا شأنه فى المجتمع الفرنسى آنذاك، حتى أن نابليون قد قال له: إنك بهذا العقل الذهبى تستحق تمثالا ذهبيا فى كل مدينة من مدن العالم، فقبل (بين) مجاملة نابليون؛ لكنه لم يقبل نزعته نحو الاستبداد، فهاجمه فى كتاباته، وقاد حملة مضادة لسياساته فى كل أرجاء فرنسا، إلى أن تم إسقاط الاستبداد الفرنسى، ولم لا وقد هاجم الولايات المتحدة لانتشار العبودية فيها، بل هاجم جورج واشنطون نفسه لأنه كان يمتلك عبيدا؟ لا شك أن الإجابة هى إيمان (بين) بعمومية المبدأ وعدم قابليته للتجزئة أو إعمال وجهات النظر، فما بك إذا كانت الحرية هى أعلى المبادىء.

وبمثل ما رفض (بين) الاستبداد باسم السياسة؛ فإنه أنكره أيضا باسم الدين، فوضع كتابه الموسوم (عصر العقل) والذى جعل كل مداراته حول حقيقة واحدة فحواها أن (عقلى هو كنيستى) فهاجم فى هذا الكتاب مؤسسة الكنيسة ورجال الدين، بل كل من سولت لهم أنفسهم التحدث نيابة عن الخالق من أصحاب الديانات الأخرى، وقد نبع هجومه الكاسح على رجال الدين من منبعين: أولهما رفضه البات لسيطرة رجالالكنيسة على شئون الدين، والثانى هو رؤيته أن رجل الدين (أى دين) الساكت عن الاستبداد السياسى كأنه شريك فيه، فجاء كتابه (عصر العقل) مناديا بضرورة الإصلاح الدينى، بحيث تمتنع سيطرة رجال الكنيسة على الدين، ويرفض الدين الذى يتحالف مع الاستبداد أو يسوغه بأى غطاء سماوى. واعتبر (بين) أن العلم هو المحرر للعقل البشرى من سلطان العابثين باسم الدين، وأن الفلسفة هى المحررة للإرادة الإنسانية من استبداد الدولة, وكان يعتبر نفسه فى هذا تلميذا للسير ( إسحاق نيوتن) 1642-1727 أما أنا فأشبه موقفه هنا بموقف (كانط) 1724-1804عندما شرع فى تأسيس فلسفة نقدية تقف ضد (الدوجماطيقية) تمثلت فى أعماله الثلاثة: نقد العقل الخالص، ونقد العقل العملى، ونقد الحكم، والذى توجها قبيل وفاته بتحرير آخر أعماله (الدين فى حدود العقل وحده) ذلك الكتاب الذى تدور فكرته المحورية حول تنقية الدين من كل شوائب الدوجماطيقية، استنادا إلى مبدأ (كانط) الذى يختزل فيه كل فلسفة التنوير فى عبارة واحدة هى (كن جريئا فى إعمال عقلك) وذلك مما يدعم حقيقة أن عصر الاستنارة كان بمثابة البيئة الحاضنة لنمو بذور الحرية، والمناخ المواتى لذيوع فلسفتها.

أما (جون ديوى) 1859-1952والذى اعتبر ثالث أضلاع المثلث البراجماتى الأمريكى بعد بيرس وجيمس، كما سبقت الاشارة؛ فهو ذلك الفيلسوف والمربى وعالم النفس والسياسة، الذى ربط التربية بالديمقراطية ربطا سائغا، ارتأى فيه توقف كل منهما على الأخرى كسبب ونتيجة، ومادا به لجسور الاتصال بين الأخلاق والسياسة، كما ربط فى كتابه (الفردية قديما وحديثا) بين القيم الفردية والمثل الجماعية بشكل تكاملى، استطاع من خلاله تقدير المدى الذى يسمح به لوجود النزعة الفردية بصورة مقبولة داخل النظم الاجتماعية، بعد تبينه أن الإسراف فى الطابع الفردى يؤدى إلى الفوضى، وأن المبالغة فى تغليب قيم الحضارة الجماعية يجهز على الامتياز الشخصى، فانفلت من أسر تلك الاتجاهات الفكرية التى تورطت فى اتخاذ مواقف متطرفة ضد الفرد أوالجماعة، ضد السلطة أو الحرية، وأسّس ببراجماتيته الخاصة (الأداتية) أو (الوسائلية) أو (الذرائعية) لمنهج تطورى يستند إلى الخبرة والتجربة والممارسة، ويخاصم الكامل والمطلق والتأملى فى المعرفة الانسانية، ويرضخه للنسبية على أوسع نطاق.

وفضلا عن تأثر ديوى بأفكار بيرس وجيمس، وخصوصا الأخير الذى تشبع بدراساته فى علم النفس، كان ديوى قد اطلع على كثير من مثاليات هيجل (1770-1831 ) وقبل كثيرا من عناصر فلسفته، ولكنه لفظ تجريداتها بعد تعرفه على نظرية التطور والارتقاء الطبيعى التى ضمنها تشارلز داروين (1809-1882) كتابه (أصل الأنواع) فانطلق ديوى فى كل أعماله متأثرا بنظرية داروين عن (بقاء الأصلح) التى بنى على أساسها نوعا من الداروينية الاجتماعية، محاولا تحديد الاطار العام لفلسفة واضحة وضوح العلم، ومرتكزا على أحد المفاهيم المحورية فى فكره وهو مفهوم (التجربة) فمعامل الوحدة في فكر جون ديوي هو التجربة، وهو يمنح هذه الفكرة القديمة محتوى جديدا أكثر اتساعا من استعماله العادى، فالتجربة عنده هى التى تجمع وترتب وتنسق تفاعلاتنا مع محيطنا فيزيقيا كان أو بيولوجيا أو عائليا أو اجتماعيا أو سياسيا، ويرى أن البراجماتية هي قبل كل شيء فكر صيرورة داخل العلم، فكل شيء بصدد التكون والتشكل؛ لذلك لايمكننا القول بأن هناك حقيقة دائمة لا تتغير أبدا، ومعنى هذا أن أفكارنا ومعاييرنا الأخلاقية والجمالية والسياسية ليست معطيات أبدية، والإيجاب الذي يتميز به هذا المسعى هو أنه يسمح لنا بالتقاطع نهائيا مع الأفكار المغلقة، فبدلا من تجميد الإنسان والطبيعة والعلم والمجتمع في دوائر مغلقة ومنعزلة عن بعضها البعض، تقترح الفلسفة البراجماتية تربيط هذه العلاقات، بحسب ما تقتضيه عوامل الحركة والتطور.

وعلى هذا الأساس جاءت كل أعمال ديوى تنبض بالحركة الاجتماعبة والحرارة الانسانية، وتناقش قضايا الإنسان البسيط الذى يصارع الطبيعة كى يستطيع العيش بكرامة وحرية، فلقد نزل بمفهوم الحرية من سماء التجريد إلى أرض الواقع والخبرة المعاشة، ورفض فى كتابه (الحرية والثقافة) وجهة النظر التى ترى أن الحرية صفة متأصلة فى الإنسان، بحيث أنها تتحقق بمجرد انعتاقه من أسر السلطة، ورآها مفهوما أرحب وأكثر فعالية من استاتيكية تعريفها الكلاسيكى السلبى، الذى غلب على مجمل التراث الليبرالى حتى منتصف القرن التاسع عشر، وهو نفس ما ذهب إليه فى كتابه (الطبيعة البشرية والسلوك) الذى اعتبر فيه أن الحرية حالة حاكمة لوجود الانسان داخل الجماعة، شريطة اتساقها مع البيئة المحيطة، وهو الاتساق لا يمكن الحصول عليه بمنأى عن التفكير العلمى؛ لأن جوهر الحرية يعتمد على ظروف العمل المستندة إلى أسس اجتماعية.

وإذا كان البعض يرى أن شهرة ديوى (التربوية) كواحد من أشهر علماء التربية فى النصف الأول من القرن العشرين، قد فاقت شهرته كفيلسوف وعالم نفس؛ فإنه يمكن القول أن هذا المفكر بمخزونه الداروينى والنهضوى والليبرالى، وبربطه بين العلم والديمقراطية والمجتمع فى نسق حيوى مترابط، كان أحد أساطين الفكر الأمريكي المؤسسين لمدرسة الحرية على النهج البراجماتى، ذلك النهج التى تسعى البراجماتية من خلاله أن تقدم مفهوم الحرية مصحوبا بفكرة النفع من ناحية، وصنوا لصالح الفرد والجماعة فى آن واحد من ناحية أخرى، وبذلك تصنع تأليفا بين المطلق والنسبى عن أحلام الحرية، أو بين الممكن والمستحيل من حدودها، بدلا من الانكفاء على عقيدة الحكم بالاستحالة.     

وإجمال ما سبق، تجده مفصلا  فى ذلك الكتاب الذى بين أيدينا، والذى يسعدنى تقديمه للقارىء العربى، كباكورة إنتاج لتلميذى الأستاذ/محمد كامل عجلان، الباحث بقسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة المنوفية، والذى كان فى الأصل موضوع أطروحته لنيل درجة الماجستير، تحت عنوان (الحرية فى الفكر السياسى الأمريكى بين توماس بين وجون ديوى،دراسة مقارنة) وهى الرسالة التى شاركت فى الإشراف عليها مع أستاذتى الفاضلة الدكتورة/ نازلى معوض أحمد، أستاذ العلاقات الدولية، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بجامعة القاهرة، وقد حصل الباحث على درجته العلميةبامتياز، ورأى - ورأيت معه - نشرها بأصلها الجامعى الذى نوقشت وأجيزت على أساسه (وتلك كانت نصيحة لجنة المناقشة) دون أدنى تغيير فى متونها أو هوامشها أو مراجعها أو نتائجها، اللهم إلا بعض اختصار فى العنوان، رأى صاحب الدراسة أنه لا يفارق جوهر العمل ولا يخالف محتواه، وذلك ليتلقاها القارىء بتلك الرصانة الأكاديمية التى قدتفيد الدارسين والباحثين على السواء.

والحق أن الباحث قد نحى فى هذه الدراسة نحوا دراسيا متعمقا، اتسم بالأصالة واستقلال الرأى، والقدرة على الانتصار لقناعاته العلمية بشكل لافت، فنظر بعين التدقيق (ولا أقول الريبة) إلى ما قد يبدو من الجبريات الاجتماعية الراسخة، وانطلق بعد أن قام بتمحيصها إلى إثبات صحة فرضياته، من قاعدة رفضه المبدئى للمسلمات ومقولات الحتم، ولا شك أن ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى هوسه الشديد بحقل تخصصه فى مجال الفلسفة السياسية، وإلمامه العريض بتاريخ مذاهبها وشخصياتها، ودرايته الواعية بمناهج بحثها، فضلا عن أن ما يحوزه الباحث من عتاد لغوى قد جعله ضالعا فى صك مفرداته الخاصة، وابتكار منتجات لفظية جاء تدشينها فى هذا العمل بمثابة قيمة مضافة إلى السياق المدروس، وذلك ما ألبس الدراسة فى مجملها ثوبا ألقا، جعل النقد فيها لم يأت منافيا لروح الحيادية أو مجافيا لقيم التجرد، فبدت فى كل خلائطها براعة الباحث فى التحليل والتركيب، ومقدرته على إجراء المقارنة وبلوغ الاستخلاص بمنهجية سليمة. وعلى الرغم من كون الدراسة تجمع بين دفتيها آراء قد تبدو متغايرة؛ إلا أنها سرعان ما تلتئم فى نسق معرفى متكامل ومتماسك بنائيا، أضفى على تتابع وحداتها البحثية نوعا من الصيرورة والاضطراد، فلم تنفلت فكرة (الحرية) من تدفقات النص، ولم تفقد مركزيتها -كمفهوم أساس- رغم كل مراوغات (البراجماتية) لها، كتصور أمريكى خاص لمفهوم (الليبرالية).  

وفى النهاية، فإن هذا عمل إنسانى، لابد وأن ينتابه النقص؛ لأن الكمال المطلق لقول الله وحده، وصدق العماد الأصفهانى حين قال (إنى رأيت أنه لا يكتب أحد كتابا فى يومه إلا قال فى غده، لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر) وحسب الباحث أنه اجتهد، ولعله بهذه البداية الطيبة قد أصاب، ٍوإن كانت الأخرى؛ فيكفيه شرف المحاولة، وفضل  تعبيد الطريق أمام الباحثين، لمن يريد زيادة الإثمار فى حقل الفلسفة السياسية الخصب، داعيا الله - سبحانه- أن يجعل من هذا العمل لبنة تساهم فى إعلاء صرح المكتبة العربية، وأن يكون أول القطر من غيث هذا الباحث الواعد، الذى أتمنى له التوفيق والسداد، فيما ننتظره من استكمال لمشروعه الفكرى التى بدت – بهذا العمل- ملامحه.

دكتور/ أمين حافظ السعدنى
أستاذ الفلسفة السياسية المساعد
بكلية الآداب جامعة المنوفية  

دكتور / عيد بلبع عميدا لكلية الآداب - د. أمين حافظ السعدني

أولا – ألف مبروك هذا الفوز الراقى بذلك المقعد الذى جلس عليه يوما عميد الأدب العربى دكتور / طه حسين .
ثانيا – خالص الأمنيات بالتوفيق لأولئك الذين لم يحالفهم الحظ هذه المرة من الأساتذة الأجلاء الذين نافسوا بشرف ، ونتمنى لهم السداد والرشاد فى قادم الأيام .
ثالثا – اعلم يا دكتور عيد ، كما أن هناك ملكيين أكثر من الملك ؛ فسوف يكون هناك عيديون أكثر من عيد بلبع ، سيماهم فى وجوههم من أثر النفاق ، هم أكلة كل الموائد ، وحملة المباخر لكل مسئول ، لا يرجون لله وقارا ، ولا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم ، ووالله ما تأذى عميد سابق بقدر تأذيه من صحبتهم ، وتزلفهم إلى سطوته لا إلى شخصه ، أعيذك بالله من شر قرباهم ، والسماع إلى شيطان ألسنتهم ، فهم رأس النكبة أثناء السلطة ، ومبعث الشماتة بعد زوالها . العمادة إلى انتهاء ، والإنسانية والأستاذية هما رهان البقاء . ولا أظنك إلاقابل للنصح . غير قائل : أمثلى يقال له : اتق الله ...؟!!!  ألا إنى بلغت ، اللهم فاشهد ، وهو المستعان ، وعليه التكلان ، والحمد لله أولا وأخيرا .

رسالة حب - د. أمين حافظ السعدني

بسم الله الرحمن الرحيم
أهلى وأحبتى :
عندما وقعت عيناى على صفحتكم بالشبكة العنكبوتية ، غاصت بى الذاكرة إلى أعماق ماض سحيق ، يسكننى وأسكنه ، يعيش فى وأعيش فيه ،  لم ولن يبرحنى ، ماض يفسد على نفسى حاضرها ، ويتربص بما تبقى فى رحم الغيب من مستقبلها ، ماض محفور بالكى فى تضاعيف روحى ، ويحلق كحمائم خضر تعشش فى بروج حزنى ، ماض يهدد بنيان نفسى ويكاد يفتك بقوتها الوهمية المزعومة ، نعم هى قوة عبثية مزعومة تتشبث بها الروح ، سرعان ما تتهاوى عند أول صدام عنيف ، وهو ماحدث لى عند مطالعتى لصوركم على شاشة حاسوبى ، فقد توقف بى العمر وتجمد بى الزمن ، وأنا أتفرس فى وجوهكم الغالية الكريمة اللصيقة بشغاف قلبى منذ أن فارقتكم وفارقتمونى ، أو هكذا شاءت لنا صروف الدهر وأقدار الحياة . شعرت ( وأشعر دائما ) أن الأمتار التى تباعد بيننا كأنها صحراوات شاسعة ، يلفح هجيرها قلبى ، وتلتاع لشقوتها ذاتى ، تلك الذات التى ما إن تتقاوى وتدعى التماسك ، إلا وتخور عند محك الرؤية ، فعند رؤية ما غاب من الأحبة ، تفقد ( الأنا ) كل مقومات صلابتها ، وتستحيل إلى حالة من السيولة الوجدانية والتدفق العاطفى لا قاع لهما .
آه ... كم برجوعى إلى أيامى معكم هاجت الذكرى واشتعلت الذاكرة ، وتم نبش قبر الماضى بقليل أفراحه وكثيرأتراحه ، وقد نكأ معظم أوجاع الروح الغائرة فى أخاديد العمر . لقد عرفت غيركم أناسا كثر من كل حدب وصوب ، وصادفت فى رحلتى الحياتية أطيافا من البشر تستعصى على الحصر من مختلف البلاد وأصناف العباد ؛ غير أنهم أجمعين لم يتمكنوا من زحزحتكم من قلبى قيد أنملة ، وكانت عتبة فلبى هى جل ما بلغوه ...!!!
أتدرون يا ذخر عمرى لماذا ؟ لأنكم الوطن الأول الذى لعقت ترابه ، وأكلت من خبزه الطاهر ومن بلحه ومن أعنابه ، الوطن الذى شربت من كأسه حتى الثمالة ، وركضت صبيا معكم فى أزقته وحواريه ، وطرقاته وجسوره ومدقاته ، فأصبحتم الماء العذب الفرات ، والشراب السلسبيل الذى لا يظمأ بعده أبدا ، فأنتم العشق الأصلى والأصيل ، الذى أصبحت كل مستنسخاته  صورا باهتة تضنى البصر ولا تزيد  شيئا يذكر فى البصيرةٍ .
أحبتى وأهلى :
أستميحكم غفرانا إذا كانت الأيام قد حالت بينى وبينكم ، فأنا الخاسر لا أنتم ، وإذا كنت قد  قدمتكم قربانا على مذبح العلم الذى ألهانى عنكم ؛ فهذه مكرمة منكم ولكم . أما أنا ، فسأبقى دائما الذبيح .
تحياتى لكم جميعا ، وقبلاتى للأرض التى تطأها أقدامكم .
أمين حافظ السعدنى

من سيتزوج أمى ؟ - د. أمين حافظ السعدني

منذ ثورة يناير 2011 وكلنا يترقب على أحر من الجمر : من يا ترى سيحكم مصر ؟ من سيكون الفرعون القادم ؟ من سيتزوج أمى كى يصبح عمى ؟ نشعر أن الأمد قد طال علينا ونحن أيتام نعيش بلا أب سياسى ، لقد أوحشنا كثيرا الاستبداد الفردى منذ قيام الثورة ، وإن كان ولاة أمر المرحلة الانتقالية لم يحرمونا منه ، فتولوا أمر البطش المؤقت أو القمع بالتجزئة ، ريثما يسلمونا بأمانة إلى الاستبداد بالجملة ، أى إلى رئيس أصلى دائم وليس( قائم بعمل )  رئيس محصن بغطاء دستورى مستمر ؛ وذلك كى لا يفطم المصريون دفعة واحدة من رضاعة الذل ، ولكى لا ينقطع التيار الاستبدادى أو تتوقف صيرورته السوسيوتاريخية على الأقل خلال مرحلة الزخم الثورى المعاش ، وكأن قهر المصريين فرض عين سياسى ، فى حين أراه أنا فرض كفاية ، إذا قام به شخص أوفصيل معين ، سقط التكليف عن بقية القوى السياسية .
وقد سألنى أحد طلابى ذات مرة : ولماذا تراه فرضا من الأصل ؟
فقلت ( وأقول دائما ) إن الاستبداد الشرقى أمر تذخر به كل أدبيات العالم ، والأهم أنه مذكور فى القرآن ( فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوما فاسقين ) وأغلب أسباب الاستبداد تعود إلى الشعب بمختلف تشكيلاته وكافة طوائفه وتنظيماته ، فقابلية المحكومين للاستخفاف هى مناط استبداد الحاكم وأساس استعلائه وتجبره وتألهه ، ومن ثم فإن قول الحاكم ( أنا ربكم الأعلى ) يأتى خطيئة لاحقة ، لخطيئة سابقة عليها فى الوجود المجتمعى ، وهى استعداد المحكومين غير المبرر أن يقولوا  للحاكم الفرعون بخشوع الرضا أو القهر ( آمنا بك ) .
فإذا كنا قد رضينا بالفرعون حاكما وبالديكتاتورية سبيلا وبالعنف السلطوى فلسفة حكم ، فلماذا إذن نرى القذى فى عين الحاكم ونجهل أو نتجاهل وجوده المزرى فى عيوننا ؟ لماذا عندما يعتلى سدة الحكم نردد بكل ما أوتينا من مواهب النفاق وعبقرية التملق أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟ لماذا تقوم وسائل إعلامنا وماكينات الدعاية المؤدلجة بالطبل والزمر والتهليل والتكبير الناعقين ؟ لماذا يقوم كثير من حملة أقلامنا بالتسبيح بحمده وتعديد نعمه وآلائه ومآثره وأمجاده وبطولاته وفتوحاته ؟ لماذا يبتهل خطباؤنا بالدعاء له فى كل المساجد والزوايا ودور العبادة بشكل لم يحدث مع أحد من الخلفاء الراشدين أو الصحابة أو التابعين ؟ لماذا يقوم مطربونا بالتغنى بإسمه على خشبات المسارح وصالات العرض ؟ لماذا يدبج فيه شعراؤنا أسمى قصائد المديح ، وكتابنا أرفع المقالات ، ومصورونا أبهى الرسومات ، ونحاتونا أفخم التماثيل والأيقونات ؟ لماذا نقدس مصافحته ونجل تلويحه لنا بالتحية ، ونعتبر حقوقنا عنده منحة منه ، وواجباته تجاهنا فضلا علينا ؟ لماذا نرى أنفسنا رعايا ولسنا مواطنين ؟ لماذا نفرط فى شرف المواطنة من أجل حفنة رعوية زائفة يلوح لنا بفتاتها ؟   وبالجملة ، لماذا نراه إلها يتواضع بالعيش معنا على الأرض ؟!!
الحق أننا الذى نصنع الطاغوت ونعبد الفرعون الإله ، حتى وإن جاء فى بداياته الأولى بشرا مثلنا ، يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ، ثم ما إن تزول وطأة قدميه من على أعناقنا ، عندما يغادرنا موتا ( عبد الناصر ) أو اغتيالا ( السادات ) أو خلعا ( مبارك ) فإننا نعاود سيرتنا الأولى ، فنقلب ظهر المجن للسابق ، ونهيل التراب على كل ماضيه ، حتى وإن كان فيه ما يستحق الإشادة أو بعض الذكر ، ونستعد لاستقبال الفرعون القادم ، لنمارس من جديد لعبتا القديمة المتجددة دوما ، والتى يمليها علينا بحتمية شديدة موروثنا الشرقى العريق ، وهو : من يتزوج  أمى لابد وأن يكون عمى .

استفيقوا - د. أمين حافظ السعدني

لم يكن الدين أحد أسباب قيام ثورة يناير، ومع ذلك انقسمنا بعد الثورة إلى فسطاطين أو فصيلين كبيرين : مؤمنين وكفار ، وأصبح الكفر والإيمان هما أدوات الخلاف والفرقة والتراشق والتنابز،  وكل أنواع العنف اللفظى والبدنى.. . إن النموذج أو المثل الأعلى السياسى هو أن يكون الحاكم متدينا ، أى يكون سياسيا حاذقا ، وعارفا فى نفس الوقت لحدود شرائع الله ، فذلك هو مناط علاقة الدين بالسياسة ، وبالتالى مناط علاقة السياسة بمنظومة القيم والأخلاق ؛ لأن الناس على دين ملوكهم ، ولأنه ( كما تكونوا يولى عليكم ).

أما العبث بالوجدان الإيمانى للمصريين واستخدام الدين للتربح السياسى وتحقيق مكاسب سلطوية مدثرة بغطاء شرعى أو مرجعية سماوية ، فذلك أحد تعريفات التدليس ؛ لأن ذلك  يفسد الدين والسياسة معا ، ويرجعنا من كلا المجالين بخفى حنين .... فإذا كان المعيار فى المجال الدينى هو الحلال والحرام ؛ وأن الدين علاقة خاصة بين العبد وربه ؛ فإن الأصل فى مقاييس السياسة هو الخطأ والصواب ، الإنجاز والإخفاق ، الفشل والنجاح ؛ لأن السياسة علاقة اجتماعية منظورة بين حاكم ومحكومين ، قائمة على محاولة تحقيق أكبر قدر من النفع لأكبر عدد ممكن من الناس ، لذا وجب التنبيه .

عفوا - د. أمين حافظ السعدني

 - إذا حدثتك نفسك بأنك وصولى ومخادع وأفاق وكاذب ومراوغ وانتهازى ومنافق ومتاجر بالدين من أجل الوصول للسلطة ، فاعلم بأنك من الإخوان المتأسلمين ... إذا كنت بائعا لدينك وشرفك وعرضك وكرامتك من أجل أن تحصد أصواتا انتخابية بالزيت والسكرمستغلا جهل وفقر الناس ، فاعلم أنك من هؤلاء المرضى النفسيين المصابين بالهوس الجنسى ، الذين لا يفكرون إلا فى النقاب ومنع الاختلاط وزواج القاصرات وضرورة الختان وحجب المواقع الإباحية ، وغير ذلك مما يدور من هياج وكهارب بين أفخاذهم ... إذا كنت ممن لا يهمهم فى الدستور إلا مفرداته وألفاظه ، ولا يعنيهم منه إلا عبارة مفرغة من مضمونها هى ( شرع الله ) وترديد ( بالروح بالدم نفديك يا إسلام ) ويرفعون الأذان فى البرلمان ... إذا كنت تلعب بكارت غزة وتستجدى العون الإعلامى من شعث ومشعل وعباس ، وتستغل أحداث سوريا للعب بورقة الحرية ، فاعلم بأنك من أدعياء النضال المزيفين .

   - إذا كنت خطيبا مرتجلا يخاطب شعبه من ساحات المساجد ، ولا يعى ما يقول ولا يعنيه ، ولا يفرق فى شخصه بين قائد دولة وشيخ طريقة ، فاعلم أنك السيد الرئيس ... إذا تراجعت فى معظم قراراتك السيادية ، لأن من أشاروا عليك بها لا يجيدون إلا كراهية القضاء والإعلام ، ومصابون بفوبيا البرادعى وحمدين ، وأنك نصبتهم فى مواقعهم الحساسة ردا لجميل مؤازرتهم الانتخابية لك ، رغم جهلهم الفاضح وخبرتهم المنعدمة ومشوراتهم الانتقامية المغرضة التى لا تخلو من تصفية حسابات قديمة ،  فاعلم أنك الرئيس الملهم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والبطل المغوار والمهدى المنتظر والمنقذ من الضلال ، وأنك فوق الرئاسة وفوق الزعامة بل وفوق النبوة .

   -  إذا كان أنصارك وأشياعك وعشيرتك يرون حقك حقا وباطلك حقا ، وأنك لا تنطق عن الهوى ، وأنك كنت الإمام الغائب الذى انشق عنه السرداب بقدرة الزيت والسكر وترهيب الناخبين من غضب الله ، وإيهامهم بأن الجنة تحت أقدام من يصوتون لبرلمان الإخوان ورئيس الإخوان ودستور الإخوان ، فاعلم أنك رئيس الإخوان الذى لا يستطيع أن يخلع عن نفسه عباءة المرشد ، ولا أن يفكر بعيدا عن سفه البلتاجى والعريان ، ولا أن يبرح المقطم  ومنابر تكفير الخصوم ، ولا يستطيع تعليم عشيرته أدنى حدود الأدب واللياقة وعفة اللسان واحترام الآخر ومجادلته بالحسنى ، والنظر إليه كإنسان لا كنمرود خارج عن الملة إن خالفهم فى الرأى ، أو أعمل عقله خارج السرب وبعيدا عن معتقد القطيع .

   - إذا كنت مواطنا فى دولة فشل حكامها فى توفير الأمن ( الذى لا يحتاج إلى قرض الصندوق ) وفشلوا فى تأمين الطرق والمزلقانات ووسائل المواصلات ، دعك من رغيف الخبز واسطوانة الغاز ورفع القمامة ، وهو برنامج المائة يوم الكاذب ، المنبثق من مشروع النهضة الأكثر كذبا ، فاعلم أنك من رعايا الرئيس ودراويش النظام ،  إذا قرأت لكل الثقات وعرفت أن قتلانا على الطرق والسكك الحديدية أكثر ممن قتلوا فى 1967 وأن مصر تحتل المركز الأول على مستوى العالم فى قتلى حوادث الطرق ، وأن الأمر زاد واستفحل بعد الثورة ، فاعلم أن الإخوان قد انتظروا طهي الثورة  ثم أكلوها .

   -  لقد دهس صباح اليوم أكثر من 50 طفلا تحت عجلات القطار الذى سحل قافلتهم لأكثر من كيلومترعند مزلقان منفلوط ، ولم تصل سيارات الإسعاف إلى موقع الحادث إلا بعد ساعتين من وقوعه ...!!! ولا شك أن الحادثة تذكرنا بالعدوان الغاشم على مدرسة بحر البقر عام  1970 وهو الاعتداء الذى لبست مصر له الحداد واتشحت فيه بالسواد ، حزنا على أطفالها الأبرياء الذين اختلطت دماؤهم الزكية الطاهرة بكتبهم وكراساتهم وأقلامهم . غير أن الفارق بين المصيبتين هو أن من قتلوا فى بحر البقر 30 طفلا ، ومن قتلوا اليوم أكثر من 50 طفلا ، من بينهم ثلاثة أشقاء من أسرة واحدة هم كل ذرية أبويهم ، أما الفارق الأهم فيتمثل فى أن إسرائيل هى من قتلت أطفالنا فى بحر البقر ، أما من قتلهم اليوم فى صعيد مصر فهم الإخوان المسلمون الذين كانت فضائياتهم أثناء الحادث تتحدث عن مكارم الأخلاق ، فى حين كانت القنوات الحكومية تعرض أفلاما كوميدية ، وكأنها تجامل حكومة الإخوان بالتعتيم على الحادث ، مثلما كان إعلام أنس الفقى يعتم على مجريات الثورة حفاظا على كرسى مبارك ...!!!

   -  نعم هم الإخوان المسلمون الذين اكتفت حكومتهم بالشجب والأسف والإدانة ، وجل ماسيفعلوه هو إقالة الوزير المسئول واستبداله بإخوانى آخر، حتى وإن لم يكن كفؤا للمنصب ولا أهلا لمسئولياته ، ثم تحويل البعض للنيابة العامة التى ستنتدب خبراء المعمل الجنائى لمعاينة مسرح الكارثة ، ثم تقيد الجريمة ضد من ماتوا ، ليسدل الستار على أحداث المسرحية العبثية ، انتظارا لمسرحية أخرى تحدث على الطريق الزراعى أو الدائرى أو فى عبارة أو ذورق شراعى ...الخ ... وكل ذلك بما لا يخالف شرع الله ...!!! فما الفارق بين مصر محمد حسنى ومصرمحمد مرسى ؟؟؟

   -  نعم هم الإخوان الذين لا مانع لديهم من انتحار نصف الشعب المصرى مقابل إنجاح عمل التأسيسية وسلق الدستور الإخوانى المشبوه ، أو عودة مجلس الشعب المنحل خشية عدم تعويضه فيما بعد ، نعم هم الإخوان الذين لا شغل لهم الآن إلا الحشد والتجييش لمعركة الانتخابات القادمة ، لينجحوا ويحكموا شعبا مسكينا غرر به الطغاة على مدار تاريخه ، وحين حاول التحرر غافله الإخوان وسرقوا منه الفرحة ... نعم هم الإخوان الذين يهتمون بغزة حماس أكثر من ضفة فتح ، لاعتبارات ايديولوجية وليست دينية ولا عروبية ، رغم أنه ليس لدينا فائض مادى أصلا ولا حتى معنوى لنصدره لفلسطين أو غيرها ، فما يحتاجه المصريون يحرم على غيرهم إذا كان الإخوان يفهمون شيئا فى  الدين ؛ فنحن الآن فى مسيس الحاجة إلى جهدنا ، نتوجه به إلى العرايا والجوعى والخائفين من أهلنا ، لنقيم شرع الله الحق وليس شرع الله الإخوانى ، فلا خائف يشبع ولا شبعان يخاف  ولا غنى لواحدة عن الأخرى ، هذه هى ثنائية الوجود المجتمعى الصحيحة التى من الله بها على عباده  فى  قوله  تعالى     ( الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) فالشق الأول مادى يتعلق بالاقتصاد ، والثانى أمنى يتعلق بضرورة فض الترويع وبث الطمأنينة فى نفوس الناس . ولم يحقق الإخوان المسلمون أحدهما فضلا عن كليهما ، ولا أظنهم بقادرين . فحكومة لا تستطيع تأمين الناس ، دعك من إطعامهم ، هى حكومة فاشلة بامتياز .

ضعوا لها العنوان أنتم - د. أمين حافظ السعدني

يا هذا ...أنا المصرى أنا
من أعطاك الحق لترسم أنت  مصيرى ؟
من فوضك وكيلا عنى
كيما تحسن لى تدبيرى ؟
من أنبأك بأن العقل يفوض فيه
وأنك أعلى من تفكيرى ؟

من أفتى بجدوى إقصائى
كى يشهد عهدك تهجيرى ؟
من أسكرك  بخمر الحكم
وبسط  الأعذار لتكفيرى ؟
من أهداك السيف لكى تغتال ضميرى ؟

لا يا هذا ...!!!
عبث ذلك فى تقديرى
سقم ما أعوزه  لبرء ...
وصقيع لا يألفه هجيرى
وملاحم وهم ما أبهتها  
وما أوهنها تجاه زئيرى
 ....
يا هذا أنا مصر الدنيا
أنا أرحب من ضيق الباحات
ومن مجمل ساحات التكبير
أنا أقدم عهدا من سلطانك
ومقتل رأسى فى تصغيرى
أنا  أأبى  شعوب الأرض
وأعلمها بشأن مقاديرى
فإما أن تعدل فينا
أو فاحذر يا هذا تكشيرى

أزمة ضمير - د. أمين حافظ السعدني

   -  أراهن عقليا بكل ما عرفت وما لم أعرف ،  أنه لا مخرج لنا من هذا الدرب الحالك وذلك الطريق المرصوف بالتخلف والنكوص والقهر وكل صنوف الفساد ، إلا بامتلاء جديد لمحتوى الضمير ، إمتلاء يصاغ فيه الوعى بشكل تربوى ومنهجى وعقيدى مغاير لفلسفة ( الأنا ) وانتفاخ الذات ، تلك التى لا يردع تضخمها إلا عصا القانون ، ولا يزعها إلا وازع السلطان و بطش العقوبة .  فالضمير -  وهو مفهوم أوسع بكثير من كونه معيارا للحل والحرمة الدينيين فحسب  -  هو ( كل ) ما ( يضمره ) العقل من وعى ترسخ داخل الإنسان بشكل تراكمى منذ الصغر ، هو مجموعة الأوامر والنواهى التى تلقاها الإنسان منذ نعومة أظفاره ، والتى بمقتضاها يستجلى كل معايير الخطأ والصواب ، بما فيها الحلال والحرام ، الإيمان والكفر، النور والظلام ، الحرية والعبودية ... إلخ ،  هو ذلك المخزون التربوى والمعرفى المترابط المتكامل الموجه لكل سلوكيات الإنسان ، والضابط المحدد  لكل مساراته فى فضائه الحيوى الذى يعيش  فيه .

     -  ولما كان كل امرىء سجين خبرته ، ينضح بمخزونه الضميرى ؛ ويتصرف وفقا لإملاءات وعيه ؛ فإن البئر إذا جفت أخرجت طينا بطبيعة الحال ،  حينئذ ترى كائنات تتمسح  بهتانا بالبشرية ، وترتدى زيفا أثواب الطهر وأردية القداسة ، وهى فى واقع أمرها تضمر بناءات فكرية هزيلة ، ويشكل ضميرها وعى شائه ، ربما شوهه السقوط  من شروخ السلطة ، التى لا تولى اعتبارا لمن أسقطته من ثقوبها  ، و ربما تكون التربية القومية المزيفة ، والمقصود بها العبث بالوجدان السياسى للأفراد ، هى  التى أفرخت تلك الكائنات الممسوخة اجتماعيا ووطنيا ، ووضعتها خطأ فى صدارة المشهد .

     -  وأغلب ظنى –  وليس كل الظن إثما -  أن الأمر مشاركة بين الحكام والمحكومين ( وإن لم يكن بالضرورة مناصفة حسابية )  فمن خطل الرأى الاعتقاد فى نفض  يد الحاكم من هذا الإثم السياسى ،  وإلقاء الللائمة على كاهل المحكومين ، فالناس على دين ملوكهم ، وإذا كان رب البيت بالدف ضاربا ، ولا يستقيم الظل والعود أعوج ، ورأس الدولة عنوان ضميرها ... إلخ  .  كما أن من سوء التقديرأيضا ، اعتبارالمجتمع هو الذى يبوء وحده بذنب فساد الضمير ، وأنه هو الذى يتحمل دون مليكه أوزار الرضوخ ومغبة الخضوع  ... وأيا كانت النسبة ، فالكل (حكاما ومحكومين ) أصبح يمارس الحرام السياسى على الملأ ، ولم تعد المجاهرة بممارسته أمرا ممجوجا ، ولا رزيلة سلوكية ، يتوارى منها الضمير السليم خجلا  . ولكن أيناه الضمير ...؟؟؟ 

فلنكمل المشوار - د. أمين حافظ السعدني

-  لا توجد ثورة فى التاريخ لم تتبعها إجراءات تطهير استثنائية ، مصر تحتضر بين أيدينا وعلى مرأى من أعيننا ومسمع من آذاننا ، وهناك ألف دواء ودواء لعلاجها واستفاقتها من هذه الغيبوبة السياسية ، فهى أغلى وأبقى من كل التيارات والفصائل الموجودة على الساحة ، حكاما ومحكومين ، سلطة ومعارضة ، أحزايا وأفرادا ومنظمات
، فكلهم مخطئون وانتهازيون وأفاقون ، ومتاجرون بشرف البلد وتاريخها وكرامتها بين كل شعوب الأرض ، ولاهثون وراء زعامات وهمية وكاريزمات اصطناعية ، كلهم لايعانون مذلة الحصول على لقمة العيش أو لتر الوقود ، ولا يشعرون بالعاطل والجوعان ومن يعيش رزق يوم بيوم ، من العمال والحرفيين وأصحاب الصنعة ، الذى إذا وجد أحدهم وجبة غدائه ، فعشاؤه فى رحم الغيب ، كلهم يرتدون أغلى الحلل وأفخرها ، وينتقلون بأفخم السيارات وأفرهها ، فى مواكب باذخة واستفزازية ، لا تراعى مشاعر وأحاسيس من يقاسمون القطط والكلاب كسرات الخبز فى صناديق القمامة ، كلهم لم يقفوا فى طابور التأمين الصحى لصرف أرخص أنواع الدواء لأشرس أنواع المرض ، فى بلد أنهكها الفقر وحمل شبابها على أجنحة المهانة ، كلهم يعيشون أحلام القيادة وأدوار الوصاية وأوهام الزعامة ، وينحدثون لغة فوقية لا يفهمها الجوعى ولا العرايا ولا العاطلون من ساكنى العشوائيات والمقابر ، كلهم إقصائيون وانتقاميون ، ولا يفهمون الديمقراطية إلا بما يوافق هواهم ويتفق مع رؤاهم  وأيديولوجياتهم ، كلهم لا يعلمون أن دخولهم التاريخ سيكون من المنور .... فلا مناص إذن من لزومية التطهير وحتميته ، التى يمليها هذا الواقع القبيح وتلك الرؤية  الغائمة وهذا المناخ المسمم بانعدام الصواب وعسر اليقين ، وإذا كان من الصعب تحديد من يجب تطهيره والقذف به فى مستنقع التاريخ ؛ فلا شك  أن روح الشعب هى المنوط بها مهمة التطهير ، وبأقصى سرعة ممكنة ؛ حتى يتسنى لثورتنا أن تسجل فى الكتب  كثورة أحرار ، لا كانتفاضة أشرار ، تلعب قديم الأدوار .

مقترح دستورى - د. أمين حافظ السعدني

أقترح فى الدستور الجديد صياغة مادة واضحة شديدة الصرامة تحظر قيام أية أحزاب على أسس أومرجعيات دينية ، وتحول دون استخدام دور العبادة فى أية أننشطة سياسية ، وينظم القانون عمل وزارة الأوقاف ومؤسسة الأزهر فى ذلك ؛ فاستحضار الدين بأفكاره اليقينية المطلقة إلى ساحة السياسة بنسبيتها ومرونتها وبراجماتيتها ، أساء في نهاية المطاف إلى صورة كليهما ، حدث ذلك ( على سبيل المثال لا الحصر ) في ربط قسري بين شريعة الله وشرعية الرئيس ، وفي معارضة البعض للرئيس لموقفه من السياحة الإيرانية ، وفي ما جرى في الصالة المغطاة لإستاد القاهرة ، فضلا عن ربط « آثم وغاشم » بين صحة إيمان المرء واتجاهاته التصويتية ، كما حدث فى كل الانتخابات والاستفتاءات السابقة .
------------------------------------------------
ومن ثم فإن تحديث مصطلح ( المواطنة ) أصبح من حتميات دستور يليق بشعب حر ، شعب لم يستسغ دينا ملوثا بالسياسة لأكثر من عام واحد ثم فاض كيله . وأكاد أجزم أن تسعة أعشار مسببات 30 يونبو وما ترتب عليها من قرارت 3 يوليو كانت تتعلق بهذا الربط المشين بين العقيدة الإيمانية وفن إدارة الدولة ،،،،، ولعل ذلك ما دعى السيسى إلى القول بأن ( السياسة تجربة حكم تقبل الفشل والنجاح ، ولا يجوز المزايدة عليها باسم الدين ) ،
----------------------------------------------
هذا الربط بين الدين والسياسة قد شق صف مصريتنا وفرق وحدتنا وقلب موازين المنطق السياسى رأسا على عقب ، فإذا كان الأصل فى علم الحكم وأبجديات الديمقراطية هو وجود سلطة ومعارضة ؛ فإن خلطنا بين الدين والسياسة قد أحال الأمر إلى جعلنا مؤمنين وكفارا ، ومن ثم تحول معيار الصلاحية السياسية من خطأ وصواب إلى حلال وحرام ، وهو ما من شأنه أن يصيب كلا الشأنين فى مقتل .

اللحظة السيسية - د. أمين حافظ السعدنى

لعلنى فى غير ذى حاجة الآن أن أتقدم بتهنئتى للمشير عبد الفتاح السيسى ، الذى تفصل بينه وبين قصر الاتحادية ساعات قلائل ، ليشغل منصب رئيس جمهورية مصر العربية لفترة رئاسية أو فترتين ، فقد تقدمت بمثل هذه التهنئة فى مقال سابق ، كنت قد خصصته أساسا للدفاع عن السيد حمدين صباحى فى مواجهة ما تعرض له من عصف سياسى على يد بعض أنصار المشير وجماعة حملته الانتخابية ، ولذلك فإنه من نافلة الفعل هنا تجديد التهنئة أو البوح بها ، ولكن آنية المرحلة تحتمها بلا شك ، فالواقع أن الفوز الساحق للمشير بانتخابات الرئاسة لم يكن فى حاجة إلى نفاذ بصيرة ، بل أن القلة ممن وقفوا فى معسكر السيد حمدين صباحى أنفسهم لم تباغتهم النتيجة ، فما بك بالأكثرية التى كادت – لفرط ثقتها فى هذه النتيجة – أن تضع الرجل فى موقف تصويتى وحشدى لا يحسد عليه ، وهو – لاعتبارات مفهومة – كان أحوج ما يكون لإخراج الصورة وتصديرها بشكل معين ، يذر الرماد فى أعين المتربصين به فى الداخل والخارج ، بل والمشككين فى شرعية تواجده على الساحة الوطنية من الأساس ، وهو ما تم تداركه بصعوبة بالغة ، وبإجراءات تثير الريبة فى صحتها وغاياتها ، كالتهديد بالغرامة للمقاطعين ، و ( تأجيز ) اليوم الثانى للانتخابات ، وإضافة يوم ثالث إلى اليومين المحددين للإقتراع ... إلخ . غير أنه فى جميع الأحوال ، فإن انعدام حالة اللهاث التى أنهكت مصريتنا على مدار عقود مضت ، وتوقفنا عن اللف فى دائرة مغلقة خلال السنوات الثلاث العجاف الماضية ، لهو غاية الجميع المرجوة تحت مظلة أى نظام وفى معية أى حاكم ، طالما توافرت فيه أنصبة الرشد السياسى .


ولعلك تسألنى الآن عن مغزى عنوان مقالى ( اللحظة السيسية ) ماذا أقصد به ؟ ولتوضيح إجابتى التى أدعى تجردها وموضوعيتها ( ولا أقول علميتها ) أرانى مدفوعا – كعادتى - إلى استجداء روح العلم والتوسل بحقائق التاريخ وثوابته ، فلقد مضت مرحلة التناحر الأيديولوجى المبطن بالأهواء المادية والمذهبية معا ، أو هكذا أزعم ، وحان وقت المراجعة العقلية الباردة ، التى ينبغى أن تكتب وتقرأ وهى منبتة الصلة بأوهام الكهف والمسرح والسوق ، وكل الأوثان العقائدية التى عبدناها تزلفا لشيطان المصلحة . ولذلك سأقوم بتقسيم إجابتى إلى ثلاثة عناصر رئيسية مترابطة بنائيا ، وإن بدت فى ظاهرها مستقلة : حمدين ، والسيسى ، والظرف التاريخى للشعب المصرى .


وسوف لا أعيد هنا الحديث عن شرف حمدين صباحى ومآثره ، فذلك مما فشل فى القدح فيه أعتى الفاسقين وأفجرهم خلقا ، وعجز عن النيل منه كل رواد نظريات المؤامرة ، وأساطين الاتهام بالعمالة والتخوين والتكفير ، ولكنى لن أبارح الحديث عن الرجل حتى أشهد أمام الله والتاريخ ، أنه لن يناهضه إلا مأفون أو مشكوك فى قواه الوطنية ، وقد سبق لى القول : اصعد بمرشحك عنان السماء ، ولكن ليس على أكتاف المنافس ولا على حساب التمثيل بجثمانه السياسى ، فحسب الرجل شرفا خوضه لمعركة ضارية ، لم يجرؤ على خوض غمارها طواويس الرجال ، ممن كانوا ملء السمع والبصر بمناصبهم المدنية والعسكرية ، ونفوذهم السياسى ، وسطوتهم المالية ، وشىء غير يسير من تاريخهم ( الفلولى ) وبذا ينتهى حديث العلم عن حمدين ، أما حديث التاريخ فهو الذى سيجمع بين السيسى والظرف التاريخى للشعب المصرى فى توليفة واحدة ، وذلك هو بيت القصيد من المقال وعنوانه ، فانظر معى :

سنة 1799 كانت عشر سنوات تقريبا قد انقضت على الثورة الفرنسية ، كان نابليون يكابد الهزيمة فى مصر والشام ، وكانت الصحف تحمل له أنباء عن هزائم فرنسا فى أوربا ، وعن الفوضى التى تجتاح بلاده ، فرنسا تعتصرها الفوضى والحروب الأهلية ، تراكم الدين بصورة مهولة بعد سنوات الحرب ، قطاع الطرق يعيثون فى الأرض فسادا ، الحكومات العاجزة والمؤقتة تجىء وتذهب فى شهور معدودات ، الناس فى حالة من الهلع والضجر والتشوش والحنين للخلاص ، لا يمكن أن تستمر الحياة هكذا إلى الأبد ، حينئذ أدرك الجنرال أنها لحظته الفارقة ، فقرر العودة سريعاً ، تستقبله جموع الفرنسيين بالهتاف والتهليل ، وبعد أن تم تتويجه إمبراطورا لفرنسا بعدها بسنوات قليلة ، قال : لقد وجدت تاج فرنسا ملقى على الرصيف فانتشلته بسيفى ، وقد عرفت هذه المرحلة فى أدبيات السياسة والتاريخ بـ (اللحظة النابليونية ) .


لحظة مماثلة شهدتها مصر فى نفس عام تتويج نابليون (1804) كان الفرنسيون قد انسحبوا من البلاد ، وكذلك الانجليز ، العثمانيون والمماليك أُنهكوا تماما ، صراعات وانقلابات أطاحت بالوالى ( خسرو باشا ) واثنين آخرين فى أقل من عامين ، أحد الولاة لم يعمر فى الحكم سوى يوم واحد ، فراغ فى السلطة السياسة التى لا تقبل الفراغ أبدا ، وفجأة يبزغ نجم شاب عسكرى ألبانى من أحد الحاميات العثمانية ، يصبح هو رمانة الميزان فى خضم الأحداث الجارية ، وكأنه الوحيد الذى استوعب حقيقة الصراع فى مصر ، وقد فهم بنفس تلك الغريزة النابليونية أن الفراغ يكاد يستصرخ من يملأه ، وعندما ذهب إليه الأعيان والعلماء (النخبة ) يطالبونه بتولى الحكم ، تمنع وأبى ، مدركا كيف يناور لكى يصوغ المعادلة السياسية على الوجه المناسب : أنتم من تحتاجوننى ، ولست أنا من يطلب السلطة ، وفى سنوات قليلة أصبح (محمد على ) الرجل الأقوى فى مصر والشرق الأوسط ، ويمكنك أن تسميها – معى – نسبة إلى محمد على بـ (اللحظة العلوية ) .


اللحظة الآن تتكرر فى مصر وتعاود الحدوث تحت مسمى ( اللحظة السيسية ) فالبشر هم البشر ، والسياسة هى السياسة ، معادلاتها وتفاعلاتها ترتكز فى الأصل على نفس الهواجس والآمال التى أرسى دعائمها مكيافيللى فى بداية عصر النهضة الأوربية ، ومن خلفوه من علماء السياسة الواقعيين ، وهى نفس الأسس التى لم ولن يغيرها التاريخ ، ومن ثم – ومع احترامى الكامل لشخص السيسى - أقول أن من يملأ الفراغ ليس بالضرورة هو الأجدر أو الأفضل ، وليس ( المخلص الجديد ) هو الذى يملك - دون غيره - أسرار الانفلات من قبضة المرحلة أو الانعتاق من أسر الظروف ، أو أنه يبطن خريطة يوتوبية قابلة للتحقق على أرض الواقع ، لتحيل ذلك الواقع - بعصا موسى - من الجحيم إلى الفردوس السياسى ، كما لا يشى ذلك بأى حال من الأحوال أن المرشح المنافس تشوبه نقيصة تدنس تاريخه النضالى أوتفقده أهلية الحكم ، ولكن من يملأ الفراغ هو من يدرك كيف يقتنص الظرف التاريخى ، ويجيد فن المراهنة على حاجة الناس الملحة للوصول إلى نقطة الاستقرار .

وقد احتشدت خلال بضع السنوات الأخيرة جملة عوامل ومتغيرات مصرية ، ساهمت إلى حد الإغراء باختطاف السلطة كلقمة سائغة لمن يستطيع الالتهام ، ولما كانت ثورة يناير جسدا بلا رأس ، أدرك الإخوان بدهائهم التاريخى المشهود أنهم البديل الجاهز للقفز على السلطة ، واغتنام فرصة البوار السياسى الذى خلفه عهد مبارك ، متمثلا فى عدم وجود نائب له متمرس فى أعباء الحكم ومهامه ، ليتسنى له التوريث الذى ابتدعه الأسد فى سوريا ، والتجريف الحزبى الممنهج على يد زبانية مبارك وحوارييه ، وخلو االساحة من كاريزمات تملأ الخيال السياسى عند المصريين ، فقد قام الإخوان بين عشية وضحاها باختطاف مفاتيح السلطة ، وحاولوا ما وسعهم الجهد تحويل مصر تشريعيا وتنفيذيا وقضائيا إلى إمارة إخوانية شبه خالصة ، يفوح منها بخور الخلافة المنشودة ، تمهيدا لتسليمها إلى السيد المسيح فى آخر الزمان .


غير أن غباءهم السياسى الفاضح وافتقارهم لأدنى حدود الخبرة وفن الحكم الرشيد ، قد نكبهم بأبشع وأسرع ما نكب به البرامكة فى عصر الرشيد والمأمون ، فضربوا المثل فى السقوط التاريخى المدوى ، المصحوب بالخزى والعار والحظر السياسى ، بل أن إعلانهم أخيرا كجماعة إرهابية قد امتد فضاؤه إلى آفاق عربية ودولية ، فسعت حماس إثر ذلك الإعلان إلى إيجاد صيغ توافق مقبولة مع فتح وحكومة أبو مازن فى الضفة ، وكأن الله يزع بالحظر مالا يزع بمساعى عمر سليمان وجهوده للمصالحة على مدار سنوات من الجهود المصرية فى هذا الملف ، الذى أعيتنا الحيل فى إغلاقه على أساس من التوحد الفلسطينى ، الذى يضمن للفلسطينيين حقهم فى الحياة الكريمة من ناحية ، ويسد علينا ذريعة الأمن القومى من أخطر جهاتنا وهى الجهة الشرقية من الناحية الأخرى . كما غير ذلك الإعلان من خريطة القوى السياسية وعلاقات المصلحة بين مصر وعدد من الدول العربية ، مدا مع السعودية والإمارات والكويت ، وجذرا مع قطر وبعض الأجنحة السورية ( المعارضة السنية ) فضلا عن بعض القلاقل مع ( اللا ) نظام الليبى وشبيهه السودانى ، ناهيك عن ارتباك علاقتنا مع تركيا التى كنا ننظر إلى أردوغانها وتجربة حزبه فى التنمية نظرة ملؤها وجوب التمثل وضرورة الاحتزاء ، أضف إلى كل ذلك هذا التحالف المشبوه الذى لاحت بوادره فى الأفق الدولى بين أمريكا والنظام الايرانى ، وتداعياته على كل دول المنطقة ... إلخ .

لقد فشل نظام مبارك فى أن يورثنا حياة ديمقراطية سليمة ، وبعده تبين بما لا يدع مجالا للشك فشل الإخوان فى إمكانية توريثنا حياة آدمية من الأساس ، وزاد الشعب اختناقا بعد شعوره بأنه انتقل بعد ثورته من سىء إلى أسوأ ، فسرت حركة ( تمرد ) مسرى النار فى الهشيمين السياسى والاجتماعى ، وكانت ثورة 30 يونيو هى الطريق الاجبارى الذى يجب على المصريين أن يسلكوه فى اتجاه واحد لا بديل له ولا مفر منه ، وجاء بيان القوات المسلحة فى 3 يوليو بمثابة طوق النجاة الذى اعتصم به المصريون ، ليخلصهم من أغلال الأخونة التى لم يستطيعوا تحمل أوار جذوتها لأكثر من عام واحد بالكاد ، كانوا بالتأكيد لا يمنون أنفسهم بالجنة ، وإنما – وكما حدث فى 30 يناير – كان خروجهم من نار الاخوان هو أقصى أمانيهم ، ثم فليحدث بعد ذلك ما يحمله رحم الغيب ، وارتبط اسم السيسى فى أذهان الناس ( وهم على حق ) بالمخلص وربما المهدى المنتظر ، وتوارت على خلفية إنجازه فى مخيلتهم ، ما قام به غاندى فى الهند ، وعمر المختار فى ليبيا ، وديجول فى فرنسا ، ومانديلا فى جنوب أفريقيا ، فكانت لحظة التعانق بين الإرادة الشعبية الجارفة فى فترة من فترات العجز والإعياء السياسى ، ومعها الشعور بوجوب بل وضرورة رد الجميل من جهة ، وبين الاستعداد الشخصى للرجل أن يقبل العرض مادام بلا تكلفة كبيرة من جهة أخرى ، فتولد لديه شعور بأنه هو المطلوب بلا منافس يذكر على الساحة ، مهما كان حجمه ومهما علت قامته ، وقد تجلى ذلك بوضوح فى عدم اعتنائه بوضع برنامج انتخابى قد يورطه فى أية التزامات مهما كانت بسيطة ، وعدم تواصله ، ولا أقول تلاحمه ، مع الناخبين ، بل كانوا هم من يسعون للقائه ، فيأدلجون أفكاره ، ويبررون أقواله ، ويصححون أعماله ، ويصوبون أفعاله ، إلى غير ذلك من أساليب خطب الود التى كان يجب عليه هو أن يقدمها لناخبيه كعربون انتخابى من رجل سياسى ، ممتلىء تبدو عليه أمارات القدرة على إنفاذ الصفقة التى سيصبح بموجبها رجل الدولة الأول . 


إنها ( اللحظة السيسية ) التى جاءت نابليون ومحمد على طواعية بلا قسر أو إجبار ، اللحظة التى فصلت فيها إرادة الشعب على مقاس الحاكم ، ولم يكن هناك بد من حتميتها القاهرة ، وكان الترزى فيها هو الظرف التاريخى القاهر ، خصوصا إذا جاءت هذه اللحظة متواكبة مع مصالح البعض ممن نعتبرهم من النخب ، بكافة تجلياتها السياسية والثقافية والاقتصادية ، بل وحتى نخب النجوم من الفنانين والاعلاميين والرياضيين ، أولئك الذين تقض مضاجع غالبيتهم الأفكار والاتجاهات اليسارية التى ترعبهم ، وتنذرهم بامكانية انعدام الطبقية أو الحد من غلوائها على أقل تقدير ، وقد تبين خلال السنوات الأخيرة ، أنه ما أيسر من أن يفرط بعضهم فى دينه ، فى مقابل ألا يتنازل عن فوقيته المكتسبة باللعب على عقول العامة والبسطاء ، ولا غرو فى ذلك ؛ لأن المنطق الاستعلائى بطبعه ضد صحيح الدين ونقيض سلامة العقيدة . ومن ثم فإنى أجزم بأن أبرع الناس لفا ودورانا ومجادلة ، مهما بلغت حيله وأراجيفه ومهاتراته ومزايداته ، فهو لا يستطيع أن يرسخ فى ذهنى عقيدة أن المشير السيسى كان يمكن طرحه على ساحة السياسة فى مصر ، بمنأى عن هذا الظرف الاستثنائى الموغل فى العجز ، وبمنأى عن انتفاء رمز القوة والسلطة ، والافتقار المرحلى لصورة البطل فى الوجدان الشعبى .


بقى أن أشير فى النهاية ، إلى أننى لم أسع لهدم أيقونة المشير السيسى ، أقصد السيد الرئيس ، ولا جعل صورته شائهة ، فليس ذلك من دأبى بصفة عامة ، فمقامه عندى محفوظ ، ومخاطرته بمنصبه الرفيع ، وربما بحياته كلها عندما انحاز لإرادة غالبية المصريين فى تلك المرحلة الشائكة هى عندى محل اعتبار وتقدير ، ولكنى سعيت – قدر طاقتى – إلى وضع عملية اختياره رئيسا لمصر خلال هذه المرحلة فى إطارها الصحيح ، ليرعوى تحت حكمه من يرعوى على بينة ، وأنا أولهم ، ويعارضه بأمانة وتجرد وشرف من يشاء ، وأنا أيضا أولهم ، مع شديد إيمانى بقرب بزوغ فجر مصر التى نريد ونأمل .